آخر الأخبار

الثلاثاء، 13 نوفمبر 2018

الغيرة :أندريه كونت-سبونفيل/ترجمة: بنتابت طارق



لابد أن نميز بداية الغيرة عن الحسد، وهو أمر ليس هينا على الإطلاق، وربما غير ممكن مطلقا.غالبا الكلمتان ما تكونان قابلتين للتعاوض والتبادل: فنحن يمكن أن نكون حسودين أو غيورين إزاء نجاحات صديق؛ والحذق هو من يقدر على ان يميز بين الإثنين،
لكن عندما يتعلق الأمر برجل مولوع بزوجته أو محترس، فلا يمكن أن ننعته بأنه حاسد لزوجته.لماذا ؟ لأننا لا يمكن أن نحسد ما نستمتع به. وهنا يتضح الفرق الأول: فالحسد يهم ما لا نملك، أما الغيرة فتتعلق بالأجدر بما نملكه أونتقاسمه. فالحسد يعبر عن نقص ما، أما الغيرة فهي خوف من فقدان أو نقصان.
إن امرأة من عامة الناس يمكن أن تحسد نجمة سينما مثلا، لكن الممثلات وحدهن، وبدون شك، من يمكن أن يغرن منها. هكذا يبدو لي أنه يمكن أن يحسدنا أي شخص ، غير أن أندادنا فقط هم من يغارون منا. وكمثال على ذلك، فإن زملاءك يمكن أن يعذروا إخفاقاتك، وهو من صميم الطبيعة البشرية، أكثر مما يمكن أن يتسامحوا مع نجاحاتك. والغيرة هي شيء من هذا القبيل: إنها رفضنا أو المعاناة التي نشعر بها حين يشاركنا الآخرون ما نتمتع به، أو بشكل أدق ما نعتقد أن بإمكاننا الاستمتاع به بشكل أفضل من دون هذه المشاركة.
وهذا ما يؤكد ذاك الشغف الحاصل في تجربة العشق التي لا يمكن أن يكون فيها الطرف الثاني سوى منافسا!؟ وهذا يبرر أن الغيرة تنطوي على شيء إيجابي هو ذاك التشبث بما نملك. فمن ذا يحب دون أن يكون غيورا؟ أما الحسد، وعلى عكس ذلك، فهو شعور يكاد يكون كله سلبيا. فالحاسد لا يحب سوى ما يفتقده، وهو يضجر منه بمجرد ما يمتلكه. أما الغيور، وعلى العكس، فيحب كثيرا ما يملكه، ويتعب في ذلك، بل إن حبه هذا يبعث فيه، في الغالب، الرغبة في شيء آخر.
إنني أدرك جيدا أن كل الغيورين ليسوا مخلصين بالقدر الذي يلزم. لكن من هذا الذي لا ينتابه شك من زوج لم يبد فيه طرف، يوما، غيرته على الآخر؟ يقول بلزاك’’ إذا لم تعد المرأة غيورة على زوجها فذاك دليل على أنها لم تعد تحبه ‘‘. فتحب، نتيجة لذلك، شخصا آخر... والأمر نفسه بالنسبة للرجال.
يترافق شعور الغيرة، بشكل طبيعي، بشعور الحب، ونتيجة لذلك يقع خلط بينهما. بل وتعتبر الغيرة علامة مائزة وضرورية للدلالة عليه؛ لهذا نجد المرأة تطمئن نفسها قائلة "إنه يحبني مادام غيورا..."، صحيح أن الأمر ليس بهذه البساطة، لكنه ليس بالضرورة خاطئا.
إن الغيرة حب تملكي وأناني ولا يمكن إخفاؤه. لكن هل يمكن أن يظل الحب بدونها حبا؟ في كل الأحوال، لن يكون شعورا حيا وهو ما يفسر أننا لا نتنازل حال الحب. إن الغيور يحب لدرجة لا يرغب معها في تقاسم ما يحبه، لكن هل يمكن لمن هو دون ذلك أن يوصف بأنه يحب بما فيه الكفاية ؟
ومع ذلك، فلن نغالي في إطراءنا للغيورين، فالغيرة، إذا ما بلغت أقصاها يمكن أن تكون قاتلة - وهو ما تطلق عليه جرائدنا اسم "جريمة بدافع العاطفة" ((le crime passionnel - مما يكشف الكثير عن طبيعتها. فيا لغرابة هذا الحب الذي يستمرئ الحداد على الإهانة! فما الذي كان القاتل يحبه بالضبط ؟ زوجته أم استمتاعه الحصري بها؟ هل كان يحب زوجته أم كونها ملكا له؟ هل كان إذن يحب زوجته أم نفسه؟ 
وتنكشف هذه الأنانية نفسها في شكلها الأكثر اعتدالا واعتيادية؛ لنتأمل هذا الغيور بشكله المبتذل: والذي يمكن أن يكون أنت أو أنا أو أي شخص...أيحب زوجته؟ ليكن، لكن ماذا يعني هذا؟ أيريد أن يحظى بحبها، وأن يكون محبوبها الوحيد فقط! أم أن الأمر أسوأ من ذلك: أن يفضل، وهو يعلم ذلك، تعاستها برفقته على أن تكون سعيدة مع شخص آخر.... أَقْبَلُ أن يكون هذا حبا لكن أ هذا هو شكله الراقي؟..
سبق "لتوما الرسول" Saint Thomas أن ميز حب الخير l’amour de bienveillance (أن تحب الغير من أجل مصلحته) عن حب الشهوة l’amour de concupiscence (أن تحب الغير من أجل مصلحتك فقط)؛ وبديهي أن تنتج الغيرة عن هذا الأخير ، الأمر الذي يمنعها من أن تكون فضيلة. لذلك، يمكن أن تعتبر الغيرة ، عند اليونان، بمثابة Eros (حب حسي) أكثر من كونها Philia (الصداقة) أوagapé (حب خيِّر).وباختصار، هذا الحب للذات بدلا من حب الآخر هو ما يمكن أن يجعل الغيرة أحد المشاعر الأكثر إنسانية والأكثر سهولة وعنفا أيضا.
زيادة على ذلك، نلاحظ أن اللغة الفرنسية لا توفر لنا ضدا لمصطلح الغيرة وهو الأمر الذي قد يثير الكثير من الحديث حول مسألة كونية هذا الشعور...أما عبارة "الله الغيور" le Dieu jaloux"الواردة في الكتاب المقدس فهي ليست إلا نوعا "التأنيس" anthropomorphisme والتي تخبرنا عن الإنسان أكثر مما تخبرنا عن الإله.
أثرت سابقا مسألة استحالة أن نجعل من الغيرة فضيلة على الرغم من أن الاشتقاق اللغوي للكلمة* (في اللغة الفرنسية) يحيل على ذلك: ففي مصطلح الغيرة la jalousie نجد zéle أي الحماسة ، وحتى وإن كان هذا قليلا ما نسمع به فإنه لا ينفي كونه أحد المعاني، رغم قدمه، لهذا المصطلح. فأن تكون غيورا jaloux على سمعتك أو استقلاليتك يعني أن تكون متحمسا zélé للدفاع عنها، ويبدو الأمر عند هذا الحد جيدا لكن أهي حماسة فعلا إن كان ذلك من أجل مصلحتك الخاصة؟ كلا، وهذا هو ما ندعوه الغيرة.
بالنتيجة، هل يمكن القول أن الغيرة خطأ؟ أبدا لا، فالمشاعر هي ما يمكن أن تكون؛ والأخلاق هي ما يَهُمُّ الأفعال. غير أن هذا الشعور يقول بالتملك أكثر مما يقول بالحب، وبالملكية أكثر من بالكينونة، وبالأخذ أكثر من العطاء. لهذا الغيور يخاف أن يفقد لأنه يريد أن يمتلك. ومن رحم هذا تنبع دوما المعاناة وآلالاف عذابات الخيال.
إن الغيرة هي حماسة (zéle) أنانية وبائسة .

-----------------------------------------
André comte-sponville ,Le gout de vivre, p 57-60 
----------------------------------------------
*Jaloux : (XIII siècle) Du latin populaire ‘zelosus’ signifiant « plein de zèle » ,lui même dérivé de grec ‘zélos ‘.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق