آخر الأخبار

الأربعاء، 9 يوليو 2025

حاجة المنطق إلى الحكمة في عصمة الفكر من الخطأ

 

حاجة المنطق إلى الحكمة في عصمة الفكر من الخطأ

إدريس هاني

 

ملاحظات منهجية أولية للقارئ الكريم

       يناقش هذا المقال إشكالية مركزية تتعلّق بفعالية المنطق الكلاسيكي في صون الفكر من الوقوع في الخطأ، ويشكّك في صلاحية التعريف التقليدي للمنطق بوصفه أداة عصمة للفكر. يرى إدريس هاني أن المنطق، في صورته الأرسطية المؤسسة، لم يعد كافياً لمواجهة أشكال المغالطة المعاصرة، التي تطورت من مجرد خطأ في التفكير إلى بنية ماكرة تتقن استغلال أدوات المنطق نفسها لخدمة أهداف مضلِّلة. في هذا السياق، يغدو المنطق أداة مخترقة، بل شريكًا في تزييف الفكر، حين يُوظّف في غير موضعه، أو يُفصل عن البعد الحكمي والحدسي للتفكير الفلسفي.

       يقترح الكاتب تجاوز المقاربة الشكلية للمنطق عبر استدعاء مبدأ فلسفي أعلى: "الحدس" بوصفه سابقًا على البرهان، ومصدرًا للحكمة كقوة يقظة تُقاوم التزييف المنطقي. فالحدس، الذي يسميه بـ"حدس الوجود"، لا يُمثّل مجرّد شعور باطني، بل هو اتصال وجودي بالمعنى، وقدرة على التمييز بين التزييف والحقيقة حتى في غياب الأدلة البرهانية المباشرة. في زمن فرط المغالطة وهيمنة التفاهة، تصبح الحاجة إلى الفلسفة – بما هي حدس وحكمة – أعمق من الحاجة إلى المنطق، الذي بات في كثير من الأحيان أداة في يد سلطة فكرية مزيفة تقمع الاختلاف باسم البرهان.

       يشدد الكاتب على أن المغالطة الحديثة، بما تملكه من مهارة في استغلال المنطق، تتطلب مواجهة من نوع جديد لا تقوم على منطق مضاد، بل على حكمة قادرة على "الإنصات إلى حدس الوجود". بهذا المعنى، يصبح الحدس ضامنًا لصحة المنطق ذاته، لا مجرد أداة مرافقة له، إذ أن الحدس هو الذي يمنح الشرعية الوجودية للفرضية، ويوجه العقل نحو الرّوية والتأني في الاستنتاج، ويراقب مدى نزاهة البناء البرهاني.

       ويخلص المقال إلى أن الخطأ الفكري المعاصر لم يعد مجرّد انحراف عن الاستدلال الصحيح، بل صار نتيجة لتواطؤ المنطق ذاته – حين يُنزّل في غير موضعه – مع أنماط التفكير المغالطي. من هنا، لا يعود المنطق عصمة بحد ذاته، بل يصبح هو نفسه محتاجاً إلى عصمة الحدس، وإلى يقظة الحكمة، كي لا ينقلب ضد المهمة التي وُجد من أجلها: أي حماية الفكر من الخطأ، وتوجيهه نحو الحقيقة.

       وعلى القارئ إذن أن يستوعب أن هذا المقال منخرط في قلب نقاش إبستيمولوجي مركزي يتجاوز مسألة صلاحية المنطق كأداة للتمييز بين الصواب والخطأ، ليطرح سؤالاً أعمق يتعلق بشرعية المنطق ذاته حين يُفصل عن شرطه الفلسفي والأنطولوجي: أي عن الحدس والحكمة. فالمقال لا يعالج المغالطة كمجرد انزلاق معرفي طارئ، بل يكشف عن تحوّلها إلى تقنية معرفية قادرة على التكيّف مع البنية الشكلية للمنطق، واستغلال قواعده الظاهرة لإنتاج نتائج باطلة تُلبّس بلبوس الصواب. إننا هنا أمام أطروحة مفادها أنّ المنطق – في صورته التقليدية كـ"أورغانون" أرسطي – لم يعد يتمتع بقدرة مطلقة على تحصين الفكر، بل بات في حاجة إلى قوة تساؤلية وفاحصة أعمق، تُمثّلها "الحكمة" بوصفها ضرباً من الحدس الوجودي القادر على إدراك الانزلاقات الدقيقة في مسار التفكير، تلك التي قد تمرّ دون أن يلتقطها الجهاز المنطقي الصرف.

       هذه الأطروحة تنخرط ضمن مسار فلسفي معاصر يتقاطع مع نقد العقل الأداتي كما صاغه مفكرون من طراز هيدغر، غادامر، وتولمين، حيث يتمّ التشكيك في حيادية المنطق وفعاليته حين يُنتزع من سياقه الأنطولوجي ويتحوّل إلى أداة تبرير أو سلطة قمع معرفي. وبهذا المعنى، فإن الكاتب لا يدعو إلى هجر المنطق، بل إلى إعادة تأسيسه ضمن أفق الحكمة، حيث لا يُفهم المنطق كمنظومة صورية محايدة، بل كأداة ينبغي أن تستمد شرعيتها من الحدس المتصل بالوجود، ذلك الحدس الذي يشكّل لحظة بدئية وضرورية لأي برهان، وأي استنتاج معرفي صادق.

       إن المساهمة الإبستيمولوجية لهذا المقال تكمن في تفكيك "أسطورة عصمة المنطق"، وكشف الطابع الزائف للحياد المنطقي حين يستغل في سياقات خطابية منحرفة أو في خدمة أنظمة فكرية مغلقة، ويقترح بالمقابل "حدس الوجود" كقاعدة ارتكاز بديلة تتيح للفكر أن يصون نفسه من الداخل، لا عبر تقنيات دفاعية شكلية، بل عبر يقظة أنطولوجية تستبق الوقوع في الخطأ، وتمنح الفكر القدرة على التمييز حتى وسط ظلمات التمويه المنطقي.

 المقال:

       هل هناك ما يؤكد على نجاعة التعريف الكلاسيكي للمنطق باعتباره آلية لصون الفكر من الخطأ؟ هل يكفي المنطق لتحصين الفكر من الخطأ؟ ما معنى أخطاء الفكر ومصدرها؟

       ليس الخطأ المقصود هنا تلك الأخطاء التي هي بالفعل ضرورية لتطور الفكر نفسه، فالفكر يقوم على تصحيح أخطائه، بل قد يكون الفكر هو عملية تصحيح أخطاء الفكر نفسه.

       لقد اتّضح لي أن تحقيقات ديفيد هيوم في الذهن البشري، على أهميتها التأسيسية الكبرى، ركزت على العادة والتكرار، ولكنها لم تتجه نحو كيفية تشكّل الخطأ نفسه استنادًا إلى "الأورغانون"، ومن يمنح العادة سلطة التعليل؟ ذلك الخطأ نفسه الذي يُعنى به المنطق، أعني المغالطة. فالمغالطة كانت ولا زالت مثل بكتيريا تتطوّر وتكتسب مناعة، لا يفيد معها بقاء المنطق جامدًا على مقولاته الكلاسيكية، فالمغالطة اليوم قادرة على تجريد المنطق من فعاليته، بل إن المنطق نفسه بات مخترقًا، بل آلية تستعملها المغالطة في تعزيز نفوذها في الفكر.

       ليس أمامنا سوى خلف منطقي إن نحن أردنا مقارعة المغالطة حينما تصبح لها دربة في استعمال المنطق نفسه، دربة تتسم بالمكر المطلق. وإذن ماذا بعد؟

       يظل الحدس بوصفه سابقًا على البرهان، الحدس بما يوفره من قدرة هائلة على التشكيك تارة واليقين تارة أخرى، هذا الحدس منبعه الأساسي هو الحكمة. وسيكون من الصعوبة بمكان القول إن هناك انقلابًا في طبيعة الحاجة والدور، حيث تصبح حاجة المنطق إلى الفلسفة أكثر إلحاحًا من حاجة الفلسفة إلى المنطق. أتحدّث عن القوة التساؤلية والحدسية للفلسفة كممارسة يقظة، وكاتصال حدسي بالوجود. إن حدس الوجود، المفهوم الذي قصدت منه قبل سنوات تجاوز المقدمات البرهانية على ما لا يتوقف انكشافه على البرهان، بأنها أكثر وفاء لحكمة الوجود. إن حدس الوجود هو مدخل الحكمة الخالدة التي وحدها تعصم الفكر من التّيه. لن ينفع المنطق في هذه المهمة إن تخلينا عن حدس الوجود. وفي هذا الحدس تتفاوت إرادة الإنصات واليقظة.

       وعليه، فإنّ المغالطة في ذروة شططها استطاعت أن تخترق المنطق وتطوّعه لخدمتها، فلم يعد منطقًا عاصمًا، بل منطقًا مجردًا يحتاج إلى الحكمة. ففي تساؤلات الحكمة وإصرارها على أولوية حدس الوجود، يكون المنطق وسيلة تحتاج إلى إطار يحميها من الاختراق الماكر للمغالطة التي تستمد قوتها من المنطق نفسه، كالفيروس الذي يستمد مادته الحيوية من الخلية نفسها التي تصبح ضحيته.

       لن يعصم المنطقُ الفكرَ من الخطأ في زمن التّفاهة وفرط المغالطة، من دون حكمة. والحكمة هي وضع الشيء في مكانه المناسب، والمنطق لن يفيد ما دامت المغالطة تستنزل مقولاته في غير موضوعاتها المناسبة. إن اعتبار العلم ضربًا من الإضافة منح فرصة للمغالطة أن تخترق المنطق، بينما حين يصبح العلم من مقولة معلومه، وحين تصبح المعرفة هي عين الوجود، يمكن للفكر أن يصون نفسه بنفسه، باعتبار أنّ المنطق هو في الأصل صناعة للفكر. فالفكر الذي اكتشف المنطق لقادر على أن يعصم نفسه من الخطأ متى أدرك أنّ مهمّته موصولة بالحدس الأعظم: حدس الوجود.

       جرّب أن تنصت لحدس الوجود، فستكتشف أنّ المنطق متى وقع في يد عقل ماكر، فإنه سيضع موازينه في غير موضوعاتها، وسيصبح في خدمة المكر والمغالطة، في انقلاب مبيت للمنطق على الفكر وعلى الوجود. حين تتغلّب المغالطة وتبدو أكثر دُربة في استغلال المنطق، لن يبقى أمام المتلقي سوى حدسه الوجودي، فهو الذي يمنحه الشعور بالخطأ المبيّت والمكر الخفي، يشعر حينئذ الفكر بأنّه ضحية خطأ ما، وإن كان يجهل مصدره وطبيعته، لكن حدس الوجود يدعوه للرّوية قبل أن يستعيد السيطرة على مسار التفكير الصحيح. حتى المنطق نفسه يحتاج إلى الحدس في عملية التنزيل والاختبار للفكر.فالحدس استشعار للخطأ في الفكر، والمنطق أداة إدانة.

       وقد يتساءل البعض عن ماهية هذا الحدس العاصم من الخطأ، وعلى أي قاعدة من قواعد المنطق يمكن تأطير عملية اختبار الفكر وتشخيص الخطأ، وهل وظيفة الحدس مزدوجة، أي: الافتراض والتقويم؟ والحال أننا نستشعر قوة الحدس في لحظة تولّد الفرضية نفسها، في تجربة تنزيله، حيث إن اختبار الفرضية بالتجريب لا ينفي اليقين العميق والابتدائي الذي يحيط به الحدس الفرضية. وهو يقين ضبابي، لكنه مصحوب بالروية، أي أنه يقين مؤجَّل.

       فهل يا ترى كان الفكر قبل اكتشاف الأورغانون عديمًا؟ وهل استطاع الفكر، بعد الأورغانون، أن يعصم نفسه من الخطأ مطلقًا؟ وقد علمنا أن المغالطة اكتسبت بعد اكتشاف الأورغانون مناعة كبرى، حتى بات الخطأ البسيط في الفكر خطيئة معقّدة. فتاريخ أخطاء الفكر ينبئنا بأن الحدس لعب أدوارًا في تصحيح الفكر، أكثر مما فعل الأورغانون، الذي تحوّل، في الممارسة الفكرية الزائفة، إلى حجة للسلطة لقمع كل محاولة للاختبار. لولا الحدس لساخت الأرض بأهلها، ولخرب العمران البشري.

       تحيط المغالطة نفسها بمزاعم تحيل إلى الانضباط الزائف بالمقولة، في حين فقد المنطق مناعته ضد الانتحال.

       إن الحدس، الذي يَكسب طراوته من التعلّق بالوجود حضورًا وفيضًا، يمنح المفكّر مناعة ونباهة، على الأقل، تكسب الفكر روية عند الخطأ، فتتشكل فرضية الأخطاء، حتى يتمكن من القبض على شيطان المغالطة، الذي غالبًا ما يستغل سرعة المرور بأوتوستراد المغالطة، لتحقيق الاستنتاج الخاطئ عبر اختزال مقدمات البرهان، وإخفاء بعضها بأساليب سحر الخفّة.وغاية الأمر أننا نمنح الحدس سلطة وضمانة على البرهان نفسه. فكما أننا اعتبرناه مانح الفرضية، وصاهر الانتقال من مقدمة إلى أخرى في سير البرهان، وكذا في تمكين الاستنتاج من النقلة الاستقرائية، فإننا نمنح الحدس ضمانة لتصحيح الفكر، وضمان تحقق المنطق في البرهان.

       إن ضبط المغالطة هو نفسه رهين بالحدس؛ هذا الأخير يفترض الخطأ، ثم يتتبع آثاره في الفكر، فيكون المنطق هو رصاصة الرحمة، التي يفوض الحدس أمرها إلى البرهان.ففي التخاطب اليومي، يلعب الحدس دورًا أساسيًا في تقويم الأفكار.لذلك علينا، بعد ذلك، أن ندرك وظيفة الحدس؛ ذلك الذي يطالبنا بالإنصات والروية.فالحدس يفتح الطريق أمام افتراض التخطئة، ولعل ذلك ما يعزز نظرية الدحض إبستيمولوجيًا، ورأي المخطِّئة كلاميًا.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق