ذ.الزاهيد مصطفى
I. معرفة الغير:
ü تقديم خاص بالمحور:
إن التأسيس للإجتماع البشري وظهور الدولة يقتضي تنظيم العلاقة بين جميع الأغيار، لكن التفكير في أشكال العلاقات الممكنة مع الغير لا يمكن أن نفكر فيه فلسفيا إلا من خلال إشكال سابق عليه وهو التفكير في إمكانية معرفته -فنحن لا يمكننا الإرتباط مع أحد أو نسج علاقات معه دون معرفة سابقة به- هذه المعرفة التي تطرح أمامنا العديد من العوائق الإبستمولوجية،
فنحن ذهبنا لزمن معتقدين أن فعل المعرفة مرتبط بالعلم والطبيعة لأنه في الواقع وما تكشف عنه الممارسة المعرفية هو أن فعل المعرفة يقتضي الإستناد إلى العديد من الخطوات التي تؤسس لهذه المعرفة وخاصة العلمية منها ك:(الملاحظة/الموضعة/التشييء/العزل/التجريب) وهي الخطوات التي لا يمكن أن نخضع إليها الغير، وحتى إن ادعينا إمكانية ذلك فلن نعرف سوى جسمه وجسده أما عالمه الداخلي فيظل عسيرا على المعرفة وصعبا على الاختراق، من هنا تصدر إشكالية معرفة الغير التي نجملها في :
ألا يؤدي فعل المعرفة باعتباره ارتبط تاريخيا بالعلم والطبيعية إلى تشييء وموضعة الإنسان وسلبه كل خصائصه الصورية (الوعي/الحرية/الاستقلالية/المسؤولية/) ؟ وهل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟ وإذا كانت ممكنة فهل هي مطلقة ونهائية وقابلة لتعميم أم أنها مجرد ظنون وأوهام وتخمينات قد يساهم هذا الغير في حد ذاته في خلقها لدي حينما يقدم نفسه أمامي بصورة معينة؟
موقف إدموند هوسرل: معرفة الغير ممكنة عن طريق التذاوت intersubjectivité
يرى هوسرل أن معرفة الغير ممكنة عن طريق ما يسميه بالتذاوت inter-subjectivité فالذات تدرك الغير في العالم المعيش le monde vécu وكأنه متحكم في أفعاله وسلوكاته وتصرفاته وجسمه، لكن هذا الغير مخترق حسب هوسرل بالغير فهو لايتصرف من تلقاء ذاته بل استنادا إلى حضور الأنا، فإدموند هوسرل يرى أن هناك إمكانية لمعرفة الغير، بحيث ترتبط الذات بالغير من خلال المجال المشترك الذي يسمى العالم. و هذا العالم توجد فيه الذات كما يوجد فيه الغير، فإدراك الذات لهذا العالم هو إدراك لهذا الغير الذي يوجد فيه. و ما دام العالم يتشكل من هذه الذوات و يتأسس عليها، فإن إدراكي لها ليس إدراكا معزولا ناتجا عن نشاط فكري أو ذاتي تكون الذات في غنى عما يمكن أن يقدمه الغير من تصورات . فتصور العالم هو تركيب لمجموع التصورات، و تفاعل الذوات فيما بينها . كما لا يمكن أن نتحدث عن عزلة فكرية و عن عدم القدرة على معرفة الغير ما دمنا نساهم في إنتاج العالم و تشكيل معالمه، و يظهر الغير في العالم و كأن له القدرة على التحكم في تصرفاته و انفعالاته، لكن الغير مخترق بواسطة الأنا كما توجد الأنا مخترقة من خلال الغير، إننا ندرك نفس العالم لكن لا يمكن للأنا أن تكوّن معرفة مطابقة للمعرفة التي يكونها الغير حول العالم، فلكل من الأنا والغير تجربتهم الخاصة حول العالم، فالوردة التي يرى فيها شخص ما رمزا للحب قد لا يعيرها شخص آخر أي اهتمام، ولا يمكن القول باستحالة معرفة الغير مادام إدراكهما للعالم مختلفا بل إن التذاوت أي التفاعل بين الذوات هو السبيل لكي تدرك الأنا الغير في قصدية ما يروم إليه من خلال فعله.
ماكس شيلر: معرفة الغير ممكنة من خلال النظر إليه كبنية كلية لاتقبل التجزيئ
يرى ماكس شيلر أن معرفة الغير ممكنة باعتباره بنية كلية مترابطة، ويؤسس لأطروحته على أساس استنباطي، مؤكدا على أننا نشارك الغير في إضفاء المعنى والدلالة على أفعاله فيكفي أن نرى ابتسامته لنقول بأنه فرحا، أو احمرار وجهه لنقول أنه خجل، أو دموعه لنقول أنه حزين، وعلى هذا الأساس يوجه شيلر نقدا لاذعا للمنهج التجريبي الذي يرى بأن تعابير وسلوكات الشخص لا تعبر نهائيا على عالمه الداخلي وكأن الغير يعيش حياتين منفصلتين، عالم داخلي وعالم خارجي، لذلك يؤكد شيلر على أن المنهج التجريبي لا يمكن تطبيقه على الفعل الإنساني لأنه فعل غير قابل للتجزيء مادام يتداخل فيه ما هو نفسي وروحي مع ما هو مادي عضوي، ويقترح شيلر الإنطلاق من المنهج الفينمينولوجي الذي ينظر للفعل الإنساني في كليته وقصديته، وينتهي شيلر إلى أنه لا يمكن أن نطبق خطوات المنهج العلمي التجريبي على التعابير الإنسانية فإذا كان الموضوع الفزيائي أو الطبيعي قابل للتقسيم والتجزيئ والموضعة والملاحظة المؤدية إلى المعرفة المطلقة القابلة لتعميم، فإن الفعل والتعبير الإنساني غير قابل لذلك، فالإبتسامة مثلا أو الحزن أو الفرح لا يمكن تجزيئه وتقسيمه وموضعته أو فصله عن ما هو داخلي، إن تعابير الغير هي مرآة عاكسة لعالمه الداخلي لذلك فالتعاطف والمشاركة هي ما يمكننا من إدراك الغير ومعرفته وفي هذا الصدد يقول ماكس شيلر"إن ما ندركه، منذ الوهلة الأولى، ليس جسد الغير ولا نفسيته، بل ندرك الغير بوصفه كلا لا يقبل القسمة، إذ لا يمكن أن نقسمه إلى قسمين، أولهما يدرك داخليا(نفسيا)، وثانيهما يدرك خارجيا(جسديا)، إن المضمونين الداخلي والخارجي، يترابطان ترابطا وثيقا بخيط دائم ومستقل عن كل ملاحظة واستقراء".
موقف جان بول سارتر: معرفة الغير كأنا غير ممكنة، فإخضاعه لفعل المعرفة يؤدي إلى موضعته وتجميد إمكانياته
يقدم الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر تصوره حول العلاقة بين الأنا و الآخر كما تتجلى في مختلف مظاهر الحياة المعيشة ( النظرة،الحب...) على أنها علاقة صراع تدور حول الموضعة، و تتجلى خاصية الصراع في أنني أحاول أن أدرك الآخر كموضوع أشيئه و أفقده بالتالي إمكاناته و حرياته. و حين أنظر إليه يشيئني و يفقدني حريتي .و يظهر الوصف الذي قام به سارتر لمختلف مظاهر الحياة المعيشة، أنني أعجز عن النظر إلى الآخر كذات و كموضوع في نفس الوقت. و بالتالي يظهر أن الوضعية التي أعترف فيها بحرية الآخر هي وضعية مستحيلة، على اعتبار أن وعي الآخر كوعي حر هو وعي يوجد خارج قدراتي المعرفية و يحمل تناقضا و استحالة تجعله بعيدا عن المعرفة.
فادعائي ورغبتي في معرفة الآخر هي مجرد محاولات للسيطرة عليه وموضعته وتشييئه. فكل واحد منا يسعى من خلال نظرته إلى تجميد الآخر والحد من تلقائيته وعفويته لكن كل واحد منا ينفلت من الآخر بفعله واختياراته وتعاليه على تلك النظرة وهو ما يجعل معرفة الغير مستحيلة كذات، إن سقوط الأنا في العالم منذ اللحظة الأولى التي تقذف فيها إلى العالم يوازيها انبثاق للغير من خلال نظرته التي تموضع الأنا لكن الأنا لا يمكنه معرفة الغير لأن حريتها توجد في تعاليها على نظرة الغير، وكل ادعاء لهذه الإمكانية(أي إمكانية معرفته)هي ليست إلا محاولة لسيطرة عليه وتشييئه.
غاستون بيرجي : معرفة الغير مستحيلة، فعالمه حصن موصد لا يمكن للأنا اختراقه أو تمثله بشكل يتطابق مع ما يفكر فيه الغير
يرى الفيلسوف الفرنسي غاستون بيرجي أن الذات تشكل عالما فريدا من نوعه، فهي تعيش في استقلال و انفصال عن الغير، إذ لا يمكن سبر أحدهما أغوار الآخر رغم حضورهما معا . و هذا الحضور لا يكون إلا للجسد أو للجسم . لكن، عقل الأنا و تفكيرها غائب عن هذا الحضور، فهو يتوارى وراء حجب لا يمكنها أن تنكشف أو تتجلى أمام الغير. فكل ما تمر به الذات لا يمكن للغير أن يشارك الأنا فيه بنفس الدرجة و المقدار، رغم أنه قادر على الإحساس و التعاطف معها، يعطينا بيرجي مثالين أو تجربتين يبدوا فيهما عالم الغير غريب تماما عن عالم الأنا، فتجربة الفرح أو الألم هي دليل قاطع عند بيرجي على عدم قدرة الغير على معرفة عالم الأنا، فمثلا حين أكون فرحا نتيجة خبر ما أو سماع شيء ما فرغم وجود الآخرين إلى جانبي فلا يمكنهم نهائيا أن يحسوا بوقع الفرح علي كما أحس به أنا رغم أنهم يشاركونني فرحتي إلا أن فرحي يظل خاصا بي ولا يمكن لمشاركتهم أو تعاطفهم أن يكون مطابقا لما أحس به، فمثلا العروس ليلة العرس قد يشاركها كل الأغيار فرحتها لكن لا أحد بإمكانه أن يحس بما تحس به هي داخليا، رغم أنهم يعبرون عن فرحهم لفرحها، كما أن تجربة الألم وخاصة الموت كأقصى تجربة وجودية قد يشاركنا الغير عن طريق تعاطفه فيها إلا أن هذا التعاطف يظل برانيا عني لأنني أنا المتألم الوحيد وأنا الوحيد القادر على الإحساس بذلك الألم الذي قد يحدثه وقع الموت من خلال فقدان قريب أو حبيب علي، أما الغير فلا يستطيع مهما حاول أن يصل إلا عالمي الداخلي ووقع الألم علي.
شكرا لك
ردحذف