جل النظريات التي حاولت تبرير وجود الدولة
والحاجة إليها ربطت ذلك، بالغاية في تجاوز العنف وتحقيق الاستقرار للأفراد الذين
يكونونها، وجعل العلاقات بينهم مبنية على أساس الحق والقانون وليس على القوة
والعنف، لكن المتأمل لأشكال الحكومات والدول التي عرفها التاريخ قديما وحديثا، بل
حتى المتأمل في الدولة المعاصرة يجد أن هذه الدولة انحرفت على الغايات التي قامت
وادعت إمكانية تحقيقها وخاصة نبد العنف وتحقيق السلم وسيادة الحق والقانون،
لكن
الدولة نلاحظ دائما أنها ترفض تلبية حاجات مواطنيها فمن ول-ستريت إلى الربيع
العربي في تونس، لاحظنا مقاومة الدولة وتعنيفها
لمواطنيها الذين خرجوا مطالبين بحقوقهم وبضرورة احترام القانون وسيادته، وفي هذا السياق نجد أن الدولة لا
تكتفي بالقوانين، بل أحيانا ترى في ممارسة العنف الحل الوحيد في تعاملها مع مطالب
مواطنيها، مما يجعلها منخرطة في ممارسة العنف الذي ادعت أنها ستقضي عليه مبررة ذلك
بكونه ممارسة مشروعة، وفي هذا الصدد وجب التساؤل فلسفيا: هل يحق للدولة ممارسة
العنف؟ أليس تناقضا أن تلجأ الدولة إلى استخدام القوة والعنف من أجل تجاوز العنف
والقوة التي تصدر من المواطنين؟هل يمكن تبرير ممارسة العنف بأي شكل من الأشكال
سوءا من طرف الدولة أم طرف المواطنين؟ وهل عنف الدولة هو عنف مشروع وقانوني؟ وهل
يمكن تبرير العنف الذي تمارسه الدولة أصلا؟ وهل يمكن الحديث عن عنف مشروع؟بعبارة
أدق أية مشروعية يمتلكها العنف؟
مستوى التحليل/فريدريك إنجلز الدولة لم تكن
غايتها في الأصل الحفاظ على الحق بل ممارسة العنف
في دراسة حول الأسس الأنثروبولوجية للدولة
قام بها فردريك انجلز في كتابه المعروف باسم"أصل العائلة والملكية
والدولة" وجه إنجلز نقدا لكل التصورات المثالية التي نظرت للدولة
باعتبارها وسيلة لتحقيق الأمن والإستقرار وضمان الحق وتحقيق العدالة، إن الدولة
حسب فريدريك إنجلز تقوم بالأساس على العنف وعلى احتكاره، وهو عنف يتم توجيهه تجاه
طبقة البروليتارية وهكذا، تكون الدولة مجرد أداة للهيمنة وللسيطرة الطبقية من طرف
البرجوازية، فالدولة حسب إنجلز تأسست بعد تفكيك نظام العائلة والعشيرة الذي قامت
عليه في اليونان القديمة مع ظهور الملكية وتطور النقد كوسيلة للمبادلات التجارية
عوض المقايضة وهو ما جعل الثروة تتركز في يد طبقات اجتماعية جديدة كانت في الحاجة
إلى من يحميها وهكذا جاءت الدولة لكي تحمي البرجوازية من عنف الطبقة البروليتارية
وضمان السيطرة للطبقة الحاكمة، وهكذا فالدولة ذات وظيفة قمعية أكثر مما هي أداة
لتلطيف الصراع والتقليل منه، فهي بقدر ما ضمنت لنفسها حق تنظيم المجتمع إلا أنها سعت
للسيطرة عليه لحساب طبقة أخرى وهكذا يرى ماركس وإنجلز أن ما يقوم على العنف لا
يمكن مواجهته إلا بالعنف الثوري الذي سيؤدي إلى زوال الطبقة البرجوازية والقضاء عليها وتفكيك بنية الهيمنة والتمايز الطبقي الذي قامت عليه الدولة لصالح
تنظيم جديد ومرحلة جديدة تصبح فيها الملكية مشتركة بين جميع العمال.
المناقشة/ ماكس فيبر العنف الذي تمارسه
الدولة مشروع ويستند إلى القانون ويختلف
عن عنف الأفراد
مارس التصور الماركسي مع انجلز وماركس إغراءا
على الصعيد العالمي من خلال التصورات التي قدمها في تحليله المادي التاريخي لوظيفة
الدولة وبنيتها، لكن التحولات التي عرفتها أوروبا وانهيار الاتحاد السوفياتي جعل
الجميع ينظر للتصور الماركسي بأنه تصور وثوقي حينما آمن بتجاوز الدولة نحو
الشيوعية، كمرحلة يصبح فيها الجميع متساوون، وهو ما سيعرف نقاشا داخل الفكر
السياسي والفلسفي بين من ينبذ العنف ومن يبرر احتكار الدولة ووظيفتها المشروعة في
ممارسة العنف واحتكاره استنادا إلى القوانين التي تتيح لها ذلك، وفي هذا الصدد
نجد أطروحة ماكس فبير في كتابه "العالم والسياسي" التي دافع فيها
على أنه لا يمكن تصور قيام دولة دون عنف، إن
الدولة تتأسس على العنف باعتباره آليتها وماهيتها لبسط نفوذها وسيادتها على مجالها
الترابي، لذلك كانت كل الدول تميل
مند تأسيسها إلى احتكار العنف وشرعنته عبر القوانين ساحبة ممارسته من باقي
الفئات الإجتماعية، فردية كانت أو جماعية، فالعنف ليس فعلا غريبا داخل الدولة
المعاصرة بل إنه الوسيلة الضرورية التي يجب تقويتها وتجديدها باستمرار، لأن
القوانين وحدها لا تضمن الأمن والحق وسيادة العدالة بل القوة، بل إن غياب
احتكار الدولة للعنف وممارسته سيلغيها ويعيدنا إلى حالة الطبيعة والفوضى، لذلك
نجد الدولة تعمل بمختلف الوسائل الإيديولوجية التي تملكها على تقوية احتكارها
للعنف وفي هذا الصدد تنفق الدولة من الأموال أكثر مما تنفقه على مجالات حيوية أخرى
من قبيل التربية والرعايا الصحية والإعلام و الأحزاب السياسية
الديمقراطية...والعنف الذي تمارسه الدولة يجعلها
الجهة الوحيدة المخولة بذلك (السجن/الاعتقال/المتابعة القضائية والجنائية/
عقاب المجرمين والمنحرفين...)وفي هذا الصدد يؤكد في كتابه "العالم
والسياسي" :"تعتبر الدولة إذن هي المصدر الوحيد 'للحق ' في
العنف".
مستوى النقد الجذري /جاكلين روس العنف لا يمكن أن يكون مشروعا في دولة الحق
والقانون
إن التطور الذي عرفته منظومة حقوق الإنسان
والفكر الحقوقي عموما جعل العديد من المفكرين يدافعون عن ضرورة تجاوز الدولة
للعنف، لأن العنف لا يمكن تبريره أو قبوله تحت أي دعوى كانت سواء من طرف الدولة أو
من طرف الفاعلين داخل المجتمع (حركات اجتماعية أو سياسية أو مدنية) إن الدولة
المعاصرة حسب هؤلاء لا تقوم على العنف بل تقوم على الحق والقانون، لذلك فهي دولة
حق وقانون كما تسميها جاكلين روس، فالدولة المعاصرة تحترم المواطنين لأنهم
أشخاص وليسوا رعايا،لذلك لا يمكن تخويفهم أو ترهيبهم، وهي ممارسات تتنافى مع دولة
الحق والقانون، لذلك دافعت جاكلين روس على ضرورة عقلنة ممارسة السلطة
وضرورة احترامها للقوانين ولحرية الأفراد، ودولة الحق تقوم حسب جاكلين روس على
ثلاثة مقومات أساسية:
ü احترام حرية الأشخاص المدنية
والفردية وحماية كرامتهم ضد كل أشكال
الترهيب والتخويف
ü تطوير منظومة الحقوق الوضعية بشكل دائم حتى تستجيب لمتطلبات الأشخاص
وحاجياتهم داخل دولة الحق، وهكذا يصبح القانون وسيلة في خدمة كرامة الأشخاص
ü الفصل الواضح بين السلطات من أجل ضمان العدالة والمساواة بين جميع الأشخاص
داخل دولة الحق.
وهكذا فإن العنف عند جاكلين روس لا يصبح له
أي مبرر داخل دولة الحق بل تصبح دولة الحق قائمة على القوانين وعلى احترام الأفراد
والنظر إليهم باعتبارهم أشخاص أحرار يستحقون العيش بكرامة وفي هذا الصدد تقول
جاكلين روس:"تتوفر دولة الحق -بفضل هذه القوى الثلاث- على كل التنظيمات التي
تضمن العمليات التي يرى بفضلها كل الأفراد أنهم محترمون و محميون".
التركيب
ما يمكن أن نخلص إليه، هو أنه صحيح ما دهب
إليه انجلز من كون الدولة تمارس العنف وتلجأ إليه، غير أن عنف الدولة كما ذهب إلى
ذلك ماكس فيبر يكون عنفا مبررا وليس عنفا شبيها بالعنف الذي يمارسه الأفراد أو
الجماعات-الذي يعتبر عنفا تدخله الدولة في إطار
الجريمة التي تستوجب تدخل الدولة وتطبيق العقاب عن طريق القانون- لكن
الدولة حتى إن كانت تقوم على العنف وتسعى لتبريره عن طريق القوانين فهي لا تقوم
دائما على العنف فالدولة التي تقوم على العنف هي دولة فاشلة سرعان ما تنهار، بل
تحتاج الدولة إلى السلطة وهي تعمل على تثبيتها وممارستها ليس استنادا إلى العنف
دائما بل إلى القوة الناعمة Soft
power لممارسة السلطة، هنا تحضر الأجهزة
الإيديولوجية بمختلف أدواتها إعلاما كانت أو مدرسة أو ثقافة...، وواضح من كل ما سبق
أن الدولة كإطار ينتظم الناس فيه سياسيا على اختلافاتهم يطرح أمامنا مجموعة من
الإشكالات التي تنطوي على جملة من المفارقات التي لا يمكن استيعابها إلا بالانفتاح
على مفهومي العنف والحق والعدالة، وإذا تأملنا في الدولة المعاصرة سواء كانت دولة
حق وقانون فإنها لم تستطع القضاء على العنف وهو ما يجعلنا مطالبين بفحص هذا
المفهوم فلسفيا لكي نقف على أصل العنف وأشكاله ومبررات اللجوء إليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق