I. المحور الأول : وجود الغير
üمقدمة خاصة للمحور الخاص بوجود الغير:
لا يمكن للإنسان أن يحبس نفسه في قمقم، فإن قطب 'الأنا' لا يستطيع العيش إلا في علاقة "بقطب الغير"، حقا إن المرء يولد بمفرده ويموت بمفرده، ولكنه لا يحيا إلا مع الآخرين وبالآخرين وللآخرين، وإذا كان قد وقع في ظن البعض أن الشعور الفردي إنما هو ذلك الوعي الخاص الذي نستشعر معه أننا موجودون وحدنا دون الآخرين، فإن هيدغر يقرر أن الوجود دون الاخرين هو نفسه صورة من صور الوجود مع "الأخرين"
بمعنى أن الشعور الفردي لا ينطوي على انفصال مطلق عن عالم الغير الذي هو من مقومات الوجود الإنساني بصفة عامة، وكما أنه ليس ثمة ذات بدون العالم، فإنه ليس ثمة ذات بدون الغير، وسواء كان الغير الذي أتصارع معه وأتمرد عليه وأسخر منه أم كان هو الصديق الذي أتعاطف معه وأنجذب إليه فإنني في كلتا الحالتين لا أستطيع أن أعيش بدونه، ولا أملك سوى أن أحدد وجودي بإزائه، وسواء قلنا مع سارتر الجحيم هو الغير أم قلنا مع مالبرانش أنه ليس هناك من عقاب أقصى على المرء من أن يعيش في الجنة بمفرده،فإن من المؤكد أن وجود الغير قضية أساسية تتطلب منا معالجتها فلسفيا إستحضار الإشكالات التالية:هل وجود الغير ضروري لكي أحقق وعيي بذاتي؟ بعبارة أخرى هل وعيي بذاتي هو وعي مباشر ومستقل أم أن وعيي بذاتي لا بد أن يمر عن طريق الغير؟ وكيف يمكنني إدراك وجود هذا الغير؟ هل بوصفه شيء من الأشياء الموجودة في الطبيعة أم باعتباره أنا آخر غيري يستحق التقدير والاحترام؟وكيف يمكن أن يعترف بي من طرف هذا الغير؟ هل من خلال الصراع من أجل الاعتراف أم من خلال الإعتراف المتبادل؟.
تصور مارتن هيدغر انطلاقا من تحليلنا له في القسم
ينطلق هيدغر في مناقشته لإشكالية وجود الغير في كتابه "الكينونة والزمن" من تأكيده على أن الإنسان موجود في هذا العالم، هذا الوجود عند هيدغر ليس بالمعنى المكاني الفزيائي، بل بالمعنى الأونطولوجيإلى جانب موجودات بشرية أخرى، فالموجود هنا(الأنا) تجد نفسها في عالم الآخرين الذي يفرض عليها أن تتعامل معه وتعيش معه، فهيدغر، لا يقصي الغير ولا يدعو للعزلة والفردانية كما ذهبت إلى ذلك الفلسفات الذاتية بل إن هيدغر يؤكد على أن العزلة عن الآخرين غير ممكنة ويلخص ذلك في قوله: "إن الوجود بدون الآخرين هو نفسه صورة من صور الوجود مع الآخرين" لكن ما ينتقده هيدغر هو إنسان العصر الحديث الذي فُرض عليه بواسطة مختلف الوسائط الإيديولوجية أن يعيش في حالة جماعية زائفة تفرض عليه التنازل عن وجوده الخاص والأصيل فيصبح في هذه الحالة وجود الإنسان هو عبارة عن انغماس وذوبان في عالم "الجمهور" الزائف.
فهيدغر يفرق بين وجود حقيقي وأصيل، ووجود زائف غير مشروع، فلكي تحافظ الدزاين/الذات/الأنا/ على وجودها الأصيل الذي يضمن لها حريتها ويجعلها حاملة لمسؤوليتها التامة عن أفعالها واختياراتها، أما الوجود الزائف فإنه يفرض على الذات النزول إلى مستوى الموضوع أو الأشياء، فتميل إلى الانغماس في عالم الجمهور الذي هو عالم استهلاكي وهو ما يمَكن الآخرين من سلبنا ذواتنا وحريتنا ومسؤوليتنا، وهو ما يؤدي إلى فقدان الذات لأصالتها وشخصيتها وهويتها، فالعودة إلى الذات أي الوجود الأصيل حسب هيدغر هو الطريق لتحرر الأنا من سلطة الغير وقبضته، وهيدغر بدعوته هذه لايقصي الغير لكنه حذر من عالمه الزائف الذي تناقش فيه فقط القضايا المنحطة والتافهة(الأيقونات/النجوم/الماركات العالمية/الأحداث اليومية..).
ما يمكن أن نخلص إليه من تصور هيدغر هو أن هيدغر يؤكد على أن التباعد هو الخاصية المميزة للعلاقة بين الأنا والغير، فأخذ المسافة من عالم الغير ضروري لكي لا تسقط الأنا في قبضة الغير ولكي لايتم إفراغها من كينونتها، وقد حاجج على ذلك من خلال المثال الذي أعطاه بركوب الحافلات وقراءة الصحف والأخبار ومشاهدة التلفاز فإنها تؤدي في نهاية المطاف إلى تنميط الأنا وجعلها تفرغ من هويتها وتفكر بشكل منقاد وشبيه لما يفكر فيه كل الأغيار اللذين يعيشون وجودا زائفا ومبتذلا.
جدول لتوضيح الفرق بين الوجود الأصيل والوجود الزائف عند مارتن هايدغر:
الوجود عند هيدغر ينقسم إلى:
| |
الوجود الأصيل
|
الوجود الزائف
|
هو وجود تكون فيه الأنا حرة وواعية ومستقلة، ومريدة ومسؤولة مسؤولية تامة عن وجودها وتفكر في العالم بمعزل عن أي سلطة خارجية أو إكراه أو توجيه سواء كان ماديا أو إيديولوجيا.
|
هو عالم الجمهور الذي خلقته الأجهزة الإيديولوجية لسلطة، وهو عالم مستغرق في اليومي ويكون فيه الأفراد منقادين وخاضعين لبعضهم البعض ومنمطين يفكرون في قضايا منحطة وشبيهين بالأشياء.
|
موقف جان بول سارتر:وجود الغير يتجلى كعائق من خلال نظرته أمام الأنا لكنه عائق ضروري لتحرر الأنا
في معالجته لإشكالية وجود الغير، يؤكد سارتر في كتابه "الوجود والعدم" أن سقوط الأنا في العالم إلى جانب الأشياء حيث تحتل الأنا المركز المستقل الذي تلتف حوله الأشياء، لكن انبثاق الغير الذي يوازي سقوط الأنا في العالم يجعل الأنا تحس أنها لم تعد وحيدة، فيظهر الغير باعتباره آخر يزحزح الأنا من مركزها الذي كانت تحتله مقارنة مع الأشياء الجامدة التي لاتستطيع أن تسلب أحدا حريته، وهو ما يجعل الأنا تفكر في وجود الغير الذي أصبح بإمكانه من خلال نظرته تجميد تلقائية وعفوية وحرية الأنا، وفي هذا الصدد يقول سارتر"فلولا أن الآخر يراني وينظر إلي لظل شيئا بين الأشياء، وأظل في عالمه كموضوع للنظر والتأمل،فموضوعيتي لا تأتي إلي من العالم، مادام العالم يستمد موضوعيته من وجودي، إذ أنه لايستطيع أن يكون موضوعا لنفسه"فالمسألة حسب سارتر هي صراع بين الأنا والغير وبتعبير أدق مبارزة،"فالغير هو الإمكانية الدائمة التي تحولني إلى موضوع مرئي، والغير هو الإمكانية الذاتية الذي يتحول بواسطتي إلى موضوع مرئي"، فالرجل "الذي يقرأ في كتابه مثلا دون أن يسمع شيئا أو يرى شيئا سوى الكتاب بين يديه يمكن أن أنظر إليه من مسافة بعيدة باعتباره"رجل قارئ" كما أقول عن هذه الصخرة، على أنها صخرة باردة، فهاهنا يبدوا الغير حسب سارتر كوجود مكاني باعتباره شيء ولكن بمجرد ما أن يلتفت إلي هو الآخر حتى تزول عنه هذه الشيئية لأتحول أنا إليها، فالغير موضوع وذات عندما أكون ذاتا بالنسبة إليه إذ لا أستطيع أن أكون موضوعا بالنسبة إلى نفسي، كما لايستطيع الغير أن يكون موضوعا إلى نفسه"فكل واحد منا يحقق حريته ووعيه بذاته من خلال تعاليه على نظرة الآخر وهي نظرة يتعالى عليها كل "أنا" في اتجاه الغير من خلال الفعل والإختيار الذي يقوم به في سبيل حريته، وفي هذا الصدد يقول سارتر"فنظرة الآخر وسيط بيني وبين نفسي وأنا أرى نفسي لأن الآخر يراني وهو شعور أوضح ما يكون في حالة الخجل وهي حالة يتعرف فيها المرء على نفسه كموضوع يراه الأخر ويحكم عليه، أو بالأحرى كحرية تفلت منه".
مـــــوقف هيجل :وجود الغير ضروري لتحقق الأنا وعيها بذاتها من خلال صراعها ضد الغير من أجل نزع الإعتراف
في قراءته لهيجل يعيد جان هيبوليت بناء التصور الهيجيلي حول تطور الوعي وأقصى ما يمكن أن يتجلى فيه الوعي كما ناقش ذلك هيغل في كتابيه "الإستطيقا" و"فينومينولوجيا الروح" أن الإنسان لا يكون ولا يوجد من أجل ذاته حسب هيجل إلا إذا تجاوز الوجود الطبيعي (الوجود كأشياء الطبيعية)، فالإنسان يمكنه أن يوجد من أجل ذاته في الوقت الذي ينفي فيه الوجود الطبيعي كي يسمو إلى ما يكون موضوع رغبته، إن تدخل الإنسان في الطبيعية من أجل تحويلها وإضفاء لمسته الخاصة حولها هو ما تستهدفه الرغبة، إن الرغبة هي وعي الذات بذاتها حسب هيجل ولن تكون الذات على وعي بذاتها إلا إذا كانت لديها رغبات تسعى لتحقيقها في إطار الصراع من أجل نزع الاعتراف الذي تحركه الرغبة عند هيغل رغبة العبد في التحرر، فحينما تسعى الذات إلى تجاوز وجودها الطبيعي /الحسي نحو تحقيق رغباتها فهي في نفس الوقت تسعى لتحقيق وعيها بذاتها، لكن هذا الوعي بالذات يصطدم برغبات ذات أخرى وهو ما يؤدي إلى صراع بين الرغبات،تجد الأنا فيه نفسها مجبرة على الدخول في صراع قاتل ومميت من أجل نزع الاعتراف ضد نقيض الأنا وهو الغير ويمثل لنا ذلك هيجل من خلال جديلة العبد والسيد فكل منهما يرغب في تحقيق وعيه بذاته من خلال رغباته وهو ما يجعلهما في صراع مستمر لكي ينفي أحدهما الآخر وينتصر عليه لكي ينتزع منه اعترافه بذاته كشخص حر وواع ومستقل، هذا الصراع هو الذي يمنح الذات و الآخر يقينا بوجودهما. فيرتقي بالفرد من مجرد أنا مباشر إلى وعي بذات معترف بها.هذا الإعتراف لا يمنح بشكل سلمي وإنما ينتزع عبر صراع يِؤدي إلى استسلام أحد الطرفين، وبذلك تنشأ العلاقة الإنسانية الأولى: " علاقة السيد والعبد في التاريخ ".
موقف ديكارت ، الأنا مكتفية بذاتها والغير لا وجود له إنه مجرد جسم
إن الفلسفة الديكارتية تتأسس على الأنا المفكرة القادرة على تحقيق وعيها بذاتها اعتمادا على الذات نفسها و دونما حاجة لمساعدة الغير، هذا ما تعلمنا إياه تجربة الشك التي يضع فيها الأنا نفسه في مقابل الغير من خلال الشك في هذا الأخير، و من خلال العزلة عنه. و من هنا يكون وجوده غير ضروري بل افتراضيا أو محتملا ما دام متوقفا على حكم العقل و استدلاله.ورغم أن ديكارت لم يتطرق للغير لفظا في متنه لكن الأنا أفكر عند ديكارت في تجربة التأمل المستقل لا تنظر للآخرين كأنوات بل مجرد أجسام متحركة حينما يطل ديكارت من شرفة النافدة عليهم ليراهم يتحركون.
رائع شكرا
ردحذف