الرهان على إمكانات العقل الأنواري لإصلاح أعطاب النظام
الليبرالي
*الزاهيد مصطفى/أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي المغرب
تنحدر الحاجة إلى الحديث عن دور للفلسفة في الفضاء
العمومي المعاصر من الأزمة التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، وهي أزمة مرتبطة في
المستوى الإجتماعي بإشكاليات العنف والشرعية السياسية
وعلى المستوى الكوسموبولتيكي
(أي الدولي) بإشكالية العدالة وسوء التوزيع، ففي المستوى الأول المرتبط بقضايا
الشرعية السياسية، وتزامنا مع التفكك الذي تعرفه الدولة-الأمة التي حددتها معاهدة
وستفاليا سيساهم
ذلك بشكل مباشر وغير مباشر في العودة إلى
الخطاب الهوياتي، هذا الخطاب الذي يجد أسسه الصلبة في فلسفات التنوير. في هذا السياق
سينخرط الجيل الثالث والثاني من مدرسة فرانكفورت
في البحث عن بديل لهذا الإنحراف أو المنعطف الكارثي الذي تعرفه المجتمعات المعاصرة
وذلك بتفكيك الأنساق الفلسفية التي تحوي هذا النزوع الكارثي، وخاصة في تركيزهما
على العقل الأنواري وتفكيك الإرتكاس الذي سقط فيه، وذلك بطرحهما لسؤال عميق نجده
حاضرا في مقدمة تيدور أدورنو وماكس هوركهايمر لكتابهما "جدلية العقل": كيف
سقطت الإنسانية في بربرية جديدة عوض أن ترتقي لوضع إنساني أصيل؟
في هذا السياق ستعبر فلسفات مابعد الحداثة عن نوع من
النزوع اليوتوبي بعد أن وصلوا إلى أن الأفق -وظيفة الفلسفة بالنسبة إليهم- لم يعد
يتسع لأكثر من التحليل والتفكيك أو النقد الجذري دون تقديم بديل يمكن أن يجد مخرجا(الخروج
بمعناه الكانطي) ويطرح بديلا يعيد الفاعلية للذات وللعقل وللأخلاق والسياسة بمعناههم
الكوني، شريطة تقويض النزوع الذاتي للفعل الأخلاقي كما أصّل له كانط في ميتافيزيقا
الأخلاق، ومن هذا المنطلق يستمد الحديث عن الحاجة إلى الفلسفة ضرورته، وخاصة
الفلسفة السياسية والإجتماعية، التي رأت في سياق حديث النهايات الذي تصاعد منذ
فوكوياما عن نهاية التاريخ ونهاية البدائل القادرة على تجاوز الإمكانات التي
تتيحها الليبرالية باعتبارها أقصى ما يمكن الوصول إليه، وصولا إلى أطروحة صامويل
هنتغتون حول الصراعات التي تغذيها الهويات الدينية والثقافية... في هذا السياق
سترى الفلسفة السياسية والإجتماعية مع روادها المعاصرين أنه بالإمكان إعادة تأسيس
المجتمع وتحقيق العدالة والمساواة وذلك بالتفكيك النظري والعملي لفلسفات الوعي
والشعور والنزعة العلموية-الأداتية، والتأسيس لفلسفة إجرائية يكون التواصل وأخلاقيات
النقاش والنضال في سبيل العدالة الإجتماعية كأسس لها، وهو ما سيمكّن
من تجديد الديمقراطية الليبرالية التي يراها رواد النزعة التواصلية في الفلسفة
السياسية "ممكنا" بديلا عن الشموليات الماركسية والفاشية والنازية والرأسمالية
في صيغتها البيروقراطية، باعتبار النزوع التواصلي من داخل الفلسفة لازال مراهنا
على إمكانية تجديد موارد الفضاء العمومي الذي تعرض للإستعمار اليوم من طرف السلطة
والنسق كما يسميهما هابرماس( ويقصد بالنسق الاقتصاد والإدارة). من داخل
النظام الليبرالي.
في هذا المنحى نجد الفيلسوف يورغن هابرماس الذي يعود إلى
تراث القرن الثامن عشر ليستعيد أسس التنوير الفرنسي والألماني مراهنا على
الإمكانيات التي يتيحها التنوير والتي اعتبرها هابرمارس لم تستنفد بعد قدرتها على
تجديد المشروع الإنساني الذي راهنت عليه الحداثة، سيدافع هابرماس على العقل الأنواري
مع توجيه نقد شديد لأقطاب العقلانية سواء مع ديكارت الذي رأى فيه هابرماس مؤسسا لأنموذج
الذاتية أو كانط الذي رأى هابرماس في ميتافيزيقاه الأخلاقية إقصاء للآخر، وذلك لأنها
تتيح وتقوم على تصور للفاعل الأخلاقي الذاتي الذي بإمكانه أن يشرع ماهو خير في غياب الذوات الأخرى، من منطلق أن
الذات عند كانط قبل إقدامها على الفعل تتمثل نفسها في نفس الوضع الذي يمكن أن توجد
فيه الذوات الأخرى، لذلك يتيح لها هذا التمثل القدرة على التمييز بين ماهو خير
وماهو شر على أساس مبدأ الألم والضرر الذي يمكن أن يلحقه الفعل الذاتيّ بالغير فتمتنع
الذات عنه أو تقدم عليه، لكن هابرماس بوعي استراتيجي يرى أن هذا النوع من الأخلاق
في أقصى مداه، والذي يمكن أن يتجسد في العلاقات الدولية يجعلنا أمام ذوات
جماعية(دول) تتصرف وتشرّع لأفعال أخلاقية في غياب تام للذوات الأخرى(دول أخرى)،
لذلك سيدافع على ضرورة التأسيس لأخلاقيات للنقاش تقصي كل الإعتبارات والخلفيات والتمثلات التي تدعيها الذات، وتحتكم فقط للقدرة
على التبرير العقلاني والحجاجي لجميع الأفعال الأخلاقية أو السياسية، وفي هذا المنطلق تكون مشروعية الفعل أو السلوك أو نظام سياسي
معين مستمدة من قدرته على تبرير نفسه أمام جموع المواطنين والأفراد بناء على
العقل وليس على القوة والإكراه والتأثير،
وهو ما يجعل الفلسفة ضرورة ملحة، لأنها نشاط وفعالية معرفية قادرة على تمكين
الفاعلين والذوات داخل العالم المعيش le Mond Vécuمن المعرفة النقدية القادرة على تنوير الرأي العام
وتفكيك الأساطير التي يمكن للنظام الإعلامي أو السياسي أو الإقتصادي أن يبرر من
خلالها دعواه وأهدافه، و ما يجب الإشارة إليه أن الفلسفة في هذا السياق لن تكون
نسقا كليا أو نظريات في المعرفة والمنطق والأخلاق، بل أداة وفعالية معرفية ونقدية
محايثة للواقع ولتحولاته، ولا غرابة في ذلك إن عرفنا أن الفيلسوف هابرماس لم يكن
متمذهبا بقدر ما كان رجلا جمّاعا-بلغة الأستاذ مصطفى الحداد- استوعب كل المتون الفلسفية القديمة والحديثة
والمعاصرة منتقيا منها ما يخدم مشروعه الفلسفي الذي كان في عمقه دفاعا عن الحداثة التي لم تستنفذ كل مهامها بالنسبة
إليه، وهو ما جعل منه مقاوما صلبا لفلاسفة
مابعد الحداثة الداعون إلى التخلي عن العقل و الحداثة باعتبارهما مؤسسان لكل أشكال
السيطرة والسلب والتشيؤ التي يعاني منها الإنسان الحديث.
بخلاف براديغم الصراع الذي مثلته كل الإتجاهات
الفلسفية الداعية إلى تغيير أسس العالم المعاصر بناء على العنف الثوري
والجذري الذي يتيح تجاوز التناقضات التي
تخلفها الرأسمالية في صيغتها النيوليبرالية المعولمة، ينظر هابرماس لمشكلات
المجتمع الحديث من منظور تواصلي لا يهدف إلى القضاء على هذه المشكلات بالعنف
الثوري، كما تصورت الماركسية أو عن طريق ملئ مكان السلطة بالقائد الذي تتجسد فيه
جميع الصفات التيولوجية والسياسية كما رأى كارل شميت، بالنسبة لهابرماس كان يحاول
أن يجد لمشكلات العالم المعاصر حلا "عقلانيا" لا يكون ثابتا (قواعد ثابتة
تضعها الذات)، كما رأت فلسفة الأنوار، بل حلولا تساهم الذوات في طرحها بصفتها ذوات
عاقلة ومسؤولة تفكر من منطلق العقلانية التواصلية، واستنادا للإجراءات التي تضعها
أخلاقيات المناقشة، تكون ذواتا تجيد استخدام اللغة بنوع من الحياد حسب
هابرماس !، وفي هذا السياق يبين الباحث عبد السلام الأشهب أن أخلاقيات
المناقشة لهابرماس تختلف عن الفلسفة 'الكانطية' في إستراتيجيتها الحجاجية فقط وليس
في الأهداف والغايات؛ لأن براديغم الفلسفة الذاتية يجعل من الذات مركزا لصياغة
المعايير الأخلاقية التي تراها ملائمة للإنسانية، بينما المقاربة الهابرماسية
تنطلق من براديغم التذاوت. فهابرماس يعتبر أن الذات طرفا فاعلا مثل باقي الفاعلين
الآخرين المعنيين بالأوامر الأخلاقية والمعايير الإجتماعية، ولهذا فصياغتها يجب أن
تتم في إطار حواري تشارك فيه جميع الأطراف المعنية". إن رهان هابرماس على
العودة إلى كانط من منظور حواري هو تجاوز
للتحدي الذي تطرحه مسألة التعددية في إطار من الإجماع الذي يحفظ حق الجميع في
النقاش داخل مجتمع متماسك ومنسجم، وهكذا فالمناقشة تمثل سبيلا ملائما لحل الصراعات
المطروحة، مادامت المناقشة هي مسعى يضمن تضمّن كل الأشخاص المعنيين واتخاذ مصالح
الكل بعين الاعتبار وبشكل متساو"، فمثلا حينما تأتي الولايات المتحدة الأمريكية
إلى العراق بدعوى القضاء على الديكتاتورية وتكريس الديمقراطية، ولو كان ذلك عن
طريق الحرب كما وقع في اجتياح العراق مثلا فإننا هنا نكون أمام "فاعل
ذاتي" شرع لمجموعة من القيم والأفعال والقرارات بشكل ذاتي، رأى فيها القيم
الأفضل، ثم سعى إلى فرضها على الذوات الأخرى (دولة العراق) بالقوة، وهو ما يتنافى
مع ما تدعو إليه العقلانية التواصلية والتي تفترض نقاشا قبليا لاسلطة فيه إلا
لسلطة العقل وقوة الحجة، ولا تكون معايير أو قيم ما مشروعة إلا إذا كانت مبررة
عقلانيا، وهكذا يمكن الإمتناع عن اجتياح بلد كالعراق مادامت الحجج التي تقدمها
(الذات الأمريكية) غير قابلة للتبرير عقلانيا ومعياريا، وبغاية تحقيق ذلك حاول
هابرماس أن يستبدل الديمقراطية الليبرالية التي تعطي القيمة للأغلبية العددية بتصور
معياري للديمقراطية والتي سماها بالديمقراطية التشاورية، وهي ديمقراطية حسب
هابرماس تتأسس على أشكال التواصل اللامهيكلة رسميا من طرف السلطة، والتي يجب أن ترتكز على التواصل الدائم
بين الفاعلين من أجل تحقيق تسوية عادلة
بين الجهات المنخرطة في العملية التشاورية-الفاعلين التواصليين المنخرطين
في المجتمع المدني والفاعلين الخصوصيين-.
هكذا لم تعد الفلسفة ترفا فكريا أو مادة تعليمية أو أنساقا
نظرية كلية ومتعالية، بل أصبحت أداة
للتغيير والتأثير في الواقع وتوجيهه، ولم يعد الفيلسوف حكيما، بل سياسيا أيضا، ليس
بالمعنى الإيديولوجي لمفهوم –السياسة- لكن بالمعنى الفلسفي و الأخلاقي للمفهوم، وهو
ما يجعل منه موجها و مرشدا للمجتمع ولقضاياه الأساسية، لكن ما يمكن ملاحظته هو أن الفيلسوف التواصلي
الذي يمكن أن يذهب مع هابرماس مذهب القائل إن العنف لم يعد ضروريا للتغيير، هذا
يفترض وجود إرادة سياسية وأخلاقية لدى السلطة يمكن أن تعمل بمقتضاها على إتاحة
الفرصة لجميع الأفراد بأن يحققوا العدالة والإعتراف، وهو ما يتنافى مع جوهر النظام
الليبرالي الذي يقوم في عمقه على التناقض الأساسي الذي لخصه ماركس في بيانه
الشيوعي بين من يملكون ومن لايملكون، ومادام النظام الليبرالي يتغذى على الرغبات
اللامحدودة التي يخلقها لدى أفراده والمتناقضة في نفس الآن، فإن إمكانية الإعتراف
والمساواة والعدالة المؤسسة على التواصل والحوار تظل ضربا من المستحيل لأنها
تتنافى في العمق مع ماهية هذا النظام، لذلك فالتفكير مع هابرماس من داخل النظام
الليبرالي في إمكانية إصلاح أعطابه وتناقضاته
هو نوع من الإرتكاس في حد ذاته، فإذا كان هابرماس يصنف كل الإتجاهات
السياسية والفلسفية التي ترى في العنف حلا بديلا وجذريا لأزمات الليبرالية بكوها
شموليات جديدة، فهذا يعود في العمق إلى اختيارات إيديولوجية وسياسية وسيكولوجية
ذاتية بالأساس، فهابرماس الذي عايش صعود النازية والفاشية والديكتاتورية لازال يعتقد أن أي حل أو بديل من خارج
الليبرالية لن ينتج إلا نازية أو فاشية أو ديكتاتورية أخرى، وهو ما يسقطه عن وعي
أو بدونه في أطروحة فوكوياما القائلة بنهاية البدائل التاريخية من خارج
الليبرالية، لذلك إذا كان هو نفسه كتب مقالة حول "التفكير مع هيدغر ضد هيدغر"
فنحن أيضا مطالبون كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف كارل اتو آبل بالتفكير مع هابرماس ضد
هابرماس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق