*ذ الزاهيد
مصطفى
تقديم عام للمحور:
إذا كانت الغاية من السياسة هو جعل المختلفين
في الرأي والتصور والمعتقد يعيشون بالمعية، فإن السياسة لا تمارس إلا بوجود
الدولة، وقد كانت الدولة دائما في نظر رواد الفكر السياسي الكلاسيكي يعتقدون أنها تملك السلطة، هذه السلطة نظر إليها
باعتبارها ممركزة في يد الدولة، وهو
ما نلمسه عند بعض رواد العقد الاجتماعي الذين
اعتبروا أن العقد بموجبه يتنازل الجميع عن سلطتهم لصالح السلطان، لكن التفكير
المعاصر في السلطة ثوّر من فهمنا لها، فلم تعد السلطة دائما ممركزة في يد الدولة
وفي أجهزتها المركزية وكأنها قدرة فزيائية قابلة للتوزيع أو المركزة، بل أصبحت
السلطة منتشرة في ثنايا الجسم الإجتماعي وبالتالي فهي مجرد علاقات وصراع إرادات
وقوى في نهاية المطاف، حتى إن اعتبرنا السلطة أمرا ملازما لكل دولة، فهذه الأخيرة
لا يمكنها تحقيق غايتها وإخضاع الأفراد
لقوانينها إلا من خلال سلطة تخول ممارستها لجهات وقوى معينة: فأين تكمن وتتحدد
الجهات المخول لها ممارسة السلطة في الدولة؟هل تتحدد فقط في يد الحاكم أم تمارس
عبر أجهزة ومؤسسات؟ هل يمكن اعتبار السلطة دائما ممركزة في مؤسسات الدولة أم أنها
مشتتة وحاضرة لدى كل القوى الفاعلة داخل المجتمع بما فيها تلك التي تعمل ضد
السلطة؟هل السلطة متعالية على المجال الذي تمارس فيه أم أنها محايثة له ومتداخلة
معه؟بعبارة أدق ما طبيعة السلطة السياسية هل هي مادية فقط أم رمزية؟.
مستوى التحليل/ نيقولا ميكيافيلي: السلطة
تقوم على القوة والقوانين يجب أن تظل صورية إن لم تكن تخدم تقوية سلطة الحاكم
بالعودة إلى تاريخ الفكر السياسي يمكننا أن
نجد إحدى الأطروحات السياسية التي ناقشت طبيعة السلطة السياسية على ضوء التاريخ
والواقع الإيطالي الذي كان مفككا، ففي كتاب "الأمير" لنيقولا
ميكيافيلي نجده يدافع عن مركزة السلطة في يد الحاكم الواحد الذي يجب عليه
أن لا يحكم فقط استنادا إلى القوانين بل عليه أحيانا أن يفعل كل ما يحافظ له على
هبته ومصالحه، لذلك فالحاكم ليس ملزم بإتباع القانون والأخلاق، إن كانت لا تخدم
مصلحته ومصلحة الدولة، وفي هذا السياق طلب ميكافيلي أن يكون الحاكم جامعا بين
القانون والقوة، في أسلوب واحد، وهو ما يجعل منه ماكرا كالثعلب وقويا كالأسد، لأن
القوانين لا تضمن للحاكم الحفاظ على مصالحه دائما، لذلك وجب عليه أن يلجأ إلى
الخدعة وعدم الإلتزام بالوعود والتظاهر بالشفقة والرحمة و احترام طقوس العبادة
والتدين فكلها أساليب تقوي حكمه وسلطته،وعلى هذا الأساس تكون سلطة الحاكم مبنية
على مصدرين، الأول مادي والآخر رمزي،فالمصدر المادي يفرض على الحاكم أن يقوي ويوسع
من آلياتها ويكون بنفسه المشرف عليها (الجيش مثلا) والمصدر الرمزي يتمثل في
استغلال جميع الأجهزة الإيديولوجية من قبيل الفكر والثقافة والتدين والتظاهر أمام
شعبه بكونه الرجل الورع والمستقيم والعادل والمتواضع و الرحيم، وهكذا تكون طبيعة السلطة السياسية عند ميكيافيلي
مادية ورمزية وليس مصدرها دائما القانون وما هو مشروع بل الحاكم هو من يستمد سلطته
من شرعيات متعددة تجعل رعاياه يتبعونه ويثقون فيه ثقة عمياء إلى درجة يبكون
على موته ولا يتصورون العيش بدونه أو في رحيله.وفي هذا الصدد يقول نيقولا
ميكيافيلي:"يجب أن تعلم أيها الأمير إذن: هناك طريقتين للقتال، الطريقة الأولى
تعتمد القوانين، والثانية تعتمد القوة".
الانتقال إلى المناقشة/مونتسكيو السلطة ذات
طبيعة قانونية وتقتضي ممارستها فصلا واضحا بين السلط
إذا كان التصور السياسي لنيقولا ميكيافيلي
يمركز كل السلط في يد الحاكم وتبقى القوانين فقط صورية يمكن اللجوء إليها حينما لا
تكون مضرة بمصلحة الحاكم ونفوذه فإن
مونتسكيو متأثرا بروح عصره وبالتراكمات الفلسفية التي خلفها عصر النهضة
فكر في السلطة من منطلق حقوقي وقانوني تكون السلطة فيه في خدمة المواطن لا في خدمة
الحاكم، وهكذا نجد مونتسكيو يدافع على أن الدولة الحديثة تتميز بتواجد ثلاثة سلط
مستقلة عن بعضها البعض وهي :السلطة التشريعية والتنفيذية والسلطة القضائية، حيث
تتولى كل سلطة مهمة خاصة ومحددة، دون أن تتدخل في السلطة الأخرى، من أجل تحقيق
غاية واحدة وهي أمن المجتمع وسعادة أفراده، لذلك دافع مونتسكيو على عدم جمع الحاكم
أو الملك لكل السلط بين يديه حتى لا نسقط في الاستبداد والديكتاتورية، فالفصل بين
السلطات ضروري لتضمن كل سلطة حق ممارسة مهامها بعيدة عن التأثير أو التأثر بسلطة
أخرى، وفي هذا الصدد يقول مونتسكيو"عندما تجتمع السلطة التشريعية والسلطة
التنفيذية بين يدي شخص واحد أو في هيئة قضاء واحدة، فإنه لا يعود ثمة مكان للحرية
لأنه بإمكاننا أن نتخوف من قيام الملك أو مجلس النواب بصياغة قوانين استبدادية،
ولن تكون هناك أية حرية إطلاقا إذا لم تكن السلطة المتعلقة بإصدار الأحكام غير
منفصلة عن السلطة التشريعية والتنفيذية".
توسيع المناقشة بالانفتاح على تصور فلسفي
معاصر لمشيل فوكو
مادام الفكر المعاصر هو إعادة للنّظر
والتفكير والحوار في الأسس التي قامت
عليها الحداثة الغربية فقد سعى الفيلسوف الفرنسي مشيل فوكو إلى التفكير
في السلطة موجها نقدا لاذعا لفلاسفة العقد الاجتماعي الذين حصروا السلطة في مؤسسات
شرعية تنبثق من الجسم الإجتماعي الذي يتنازل عنها لفائدة الحاكم، كما ارتبطت في
الفلسفة الماركسية بكونها أداة للهيمنة في يد الطبقة الحاكمة تعمل من خلالها على
تبرير وتكريس هيمنتها الإقتصادية والسياسية، وما ينتقده فوكو هو تصورهم جميعا
للسلطة كآلية أو جهاز قابل للنقل والتمركز في يد جهة معينة، لكن فوكو متأثرا
بنتشه نظر للسلطة باعتبارها مجرد صراع إرادات وقوى، وهي في النهاية نتيجة علاقات
قوى داخل الجسم الإجتماعي، والسلطة حسب مشيل فوكو ليست مادية أو رمزية بل هي
مشتتة في ثنايا الجسم الاجتماعي يمارسها الجميع ويساهم فيها، أما السلطة المادية
التي تتجسد في المؤسسات أو في جهاز الدولة (الجيش/الشرطة/القضاء ..) هي مجرد
تعبيرات عن علاقات قوة مهيمنة وليست هي كل السلطة، يقترح مشيل فوكو نموذجا استراتيجيا للسلطة، فلا ينبغي النظر إلى السلطة
كملكية قارة ومستقرة في يد ذات فردية أو جماعية، وإنما يجب التفكير في السلطة كإنتاج
لاستراتيجيات الصراع بين القوى. حسب فوكو"فالسلطة هي دوما شكل خاص ومؤقت لصراع
ما يفتأ يتكرر، والصراع المتكرر بكيفية دائمة لا يسمح باستقرار السلطة فهناك حرب لا
هوادة فيها، دائمة ومستمرة من أجل السلطة، فالسلطة علاقة، والعلاقة تتغير باستمرار،
لا يمكن الحديث عن مركز السلطة أو سلطة المركز، فهي منبثة ومنتشرة في كل مكان، وفي
داخل الجسم الاجتماعي برمته. وبهذا المعنى فالسلطة غير منضبطة لحدود "السياسي"،
إنها تتجاوز تخومه. ويضيف فوكو "توجد علاقات قوة بين كل نقطة في الجسم الاجتماعي:
بين الرجل والمرأة بين أفراد الأسرة (...) بين كل من يعرف وكل من لا يعرف" . ولا يجب أن نفهم من ذلك أن فوكو ضد الدولة أو
من دعاة التخلي عنها على العكس فهو يقول :"لا أزعم أن الدولة لا أهمية لها،
ما أريد قوله، هو أن علاقات القوة، وبالتالي أن التحليل الذي ينبغي أن تخضع له، يتجاوز
بالضرورة حدود الدولة. وذلك بمعنيين: أولا وقبل كل شيء لأن الدولة، وبالنظر إلى حضور
كل أجهزتها، بعيدة كل البعد عن أن تكون قادرة على ملأ مجمل علاقات السلطة، و ثانيا:
لأن الدولة لا يمكن أن تؤدي وظيفتها سوى بالاعتماد على غيرها، أي على علاقات القوة
الموجودة. إن الدولة تمارس سلطتها عن
طريق جميع الخطابات بطريقة ميكروفزيائية فهي حاضرة وثاوية في كل خطاب (أخلاقي أو
اقتصادي أو علمي أو ديني... ) لذلك نجد فوكو
يقول "إن كل خطاب هو في حد ذاته سلطة" وفي هذا السياق يذهب فوكو مذهب نيتشه
في تصوره للسلطة، فهي تارة تستعمل الوهم أو الإيديولوجيا والخداع، وتارة تتوسل
بالعنف، مرة تلجأ إلى القوة الفزيائية ومرة أخرى تستعمل الخداع المحوسب من أجل
إخضاع الإرادات المعارضة لغاياتها" وبالتالي فليس لسلطة طبيعة محددة إنها قوة
قمعية تشتغل باستراتيجيات مختلفة تبعا للظروف والأحداث والأزمنة.
التركيب
ما نخلص إليه هو أنه إذا كانت الفلسفة
السياسية الكلاسيكية والحديثة قد نظرت للسلطة باعتبارها قدرة مادية تؤدي إلى
الإكراه والضبط واحتكار العنف المشروع من أجل سعادة وأمن عموم الناس فإن الفكر
المعاصر والمابعد حداثي قد غيّر من نظرتنا للسلطة، إذ لم تعد السلطة ممركزة في يد جهاز الدولة بل أصبحت
عبارة علاقات واستراتيجيات تنهجها وتمارسها مختلف القوى الفاعلة داخل الجسم
الإجتماعي وبالتالي فالسلطة تمارس بتكتيكات متعدد تارة عن طريق أجهزة ممأسسة
للسلطة وتارة عن طريق آليات التحكم والرقابة الخفية، وفي هذا السياق نجد السلطة مع
فوكو لم تعد حكرا على الدولة أو أجهزتها الإيديولوجية بل إنها موجودة وساكنة في
ثنايا كل الخطابات المتداولة داخل
المجتمع، ففي الخطاب الأخلاقي داخل الأسرة توجد وتختفي السلطة في الهيمنة من طرف
الأب، وفي الخطاب الإعلامي والإشهاري تختفي سلطة الجهات الراغبة في الربح، فالسلطة
توجد في الشارع والحدائق العامة وفي جميع الأمكنة وهو ما جعل مشيل فوكو يتحدث عن
مجتمعات الرقابة، بمعنى آخر لا سبيل إلى احتكار السلطة من طرف الدولة كما ترى الماركسية، ويرفض
فوكو منظور ألتوسير الذي يختزل السلطة في الأجهزة الإيديولوجية والأجهزة القمعية للدولة،
فهي تنفذ إلى كل أنحاء وثنايا المجتمع، وتتواجد في كل مكان حتى في ما يعتقد أنه حكرا
على جهاز الدولة.فهي في كل مكان وفي لا مكان (Partout et
nulle part)، لا مركز لها ولا أطراف، وتحكم قبضتها على كل شيء، وهنا تصبح
الأحجية القائلة إن غاية الدولة هي الحرية وضمان الحق والقضاء على العنف مجرد
ادعاء يحتاج إلى فحصه فلسفيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق