يحيل مفهوم العقلانية العلمية على شكل جديد من العقلانية تطور في ظل الأزمات التي مست العلوم وأسسها الكلاسيكية الحديثة، فرغم ارتباط ظهور العقل وميلاده بالشك الديكارتي غير أن تقدم العلوم وتعرضها لأزمات داخلية خلال القرن التاسع عشر أديا إلى نشوء عقلانية جديدة مرنة ومخالفة لتحجر العقلانية الكلاسيكية،
إذ لم يعد العقل جوهرا ثابتا أو بنية قبلية متعالية ومطلقة بل أصبح ينظر إليه بوصفه أداة لإنتاج المعرفة تنمو وتتطور من خلال عملية إنتاج المعرفة نفسها، بحيث ينفتح العقل ويوسع تصوراته ومبادئه لاستيعاب وقائع جديدة لم يكن يعمل عليها من قبل، مثل النقائض الرياضية واللاحتمية الفزيائية
إذ لم يعد العقل جوهرا ثابتا أو بنية قبلية متعالية ومطلقة بل أصبح ينظر إليه بوصفه أداة لإنتاج المعرفة تنمو وتتطور من خلال عملية إنتاج المعرفة نفسها، بحيث ينفتح العقل ويوسع تصوراته ومبادئه لاستيعاب وقائع جديدة لم يكن يعمل عليها من قبل، مثل النقائض الرياضية واللاحتمية الفزيائية
والصدفة والاحتمالات، وقد استخلص باشلار نتائج هذا التطور بالنسبة للعقلانية العلمية حين قال "ينبغي إعادة العقل إلى الأزمة، وإثبات أن وظيفة العقل هي إثارة الأزمات وأن عقل المناظرة"السجالي" الذي اختصه كانط بمنزله ثانوية، لايمكن أن يمضي في ترك العقل المعماري ينعم في تأملاته"، لقد كانت العقلانية العلمية هي ثورة على العقلانية الدينية للقرون الوسطى، وقد قيست قيمتها بالنتائج التقنية التي أدت إلى تثوير الواقع والتأثير فيه وهو ما يدفعنا للتساؤل:حول : ما هي خصائص العقلانية العلمية؟ وما هي أسسها و مرتكزاتها؟ هل هي عقلانية نسبية أم عقلانية مطلقة؟هل الإنتماء إلى العقلانية العلمية معناه الإيمان بأن التجريب العلمي هو المصدر الوحيد لكل معرفة علمية أم معناه بأن العقل هو مصدر هذه المعرفة؟ماهو دور كل من العقل والتجربة في إنتاج المعرفة العلمية؟وما الفرق بين العقلانية الفلسفية والعقلانية العلمية؟.
ارتبط مفهوم العقلانية بالشك الديكارتي والنقد الكانطي اللذان يعتبران من مؤسسي الإتجاه العقلاني الذي نصنف ضمنه كل من مالبرانش واسبينوزا وليبنز، وما يجمع هؤلاء هو إيمانهم المطلق بالعقل واعتبارهم إياه المصدر الوحيد لكل معرفة علمية حقيقية، فديكارت عاش مرحلة عرفت إنهيارا تاما للعلم الأرسطي الذي كان يستند بالأساس على معطيات الحواس وعلى الثقة فيما تقدمه من انطباعات وأحاسيس، هذا الإنهيار الذي بدأ مع كوبرنيك وتيكوبراهي.فقد تصور كل من كانط وديكارت العقل باعتباره ثابتا منغلقا يقصي من ذاته ومن الواقع كل ماهو ليس عقلي، وكل ما ليس يقينيا، لقد تصوروا العقل باعتباره جوهرا أو بنية متعالية منتجة للمعرفة، وانطلاقا من مجموعة من المبادئ التي اعتبرت خالدة ومتأصلة فيه وهي: /مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض ومبدأ الثالث المرفوع ومبدأ السبب الكافي، فمع أن الواقع يبدوا متغيرا ومتحولا فإن العقل يعمل بمبدأ الهوية الذي يقضي أن الشيء يكون هو هو دائما مطابقا لذاته، فالطاولة هي طاولة وليست جملا، والعدد الفردي فردي وليس زوجيا و أ هي أ وليس ب والوجود هو وجود وليس عدما، كما يعمل العقل بمبدأ عدم التناقض الذي يقضي بأن النقيضين لا يجتمعان وأن القضية ونقيضها لا يكونان معا صادقتين، بل إن كانت إحداهما صادقة كانت الأخرى كاذبة بالضرورة ومن هنا ينبثق مبدأ الثالث المرفوع، وهو يعني أنه لاوسط بين الصدق والكذب فإما أن تكون القضية صادقة أو كاذبة، ولا يمكن أن تكون لا صادقة ولا كاذبة في آن واحد ومن جهة واحدة، ويقتضي مبدأ السبب الكافي الذي صاغه ليبنز بأنه لا يمكن لواقعة
أن تكون موجودة ولا لأي منطوق أن يكون صادقا دون سبب كاف يبرر لماذا يكونان على هذا النحو وليس على نحو آخر" وعلى هذا الأساس تصورت العقلانية الحديثة مصدر المعرفة واختزلته في العقل باعتباره الأداة و الجوهر القادر على إيصالنا لليقين والحقيقة، أما التجربة والحواس فهي خدّاعة ولا يمكن الوثوق بها لأنها سبق وخدعتنا حينما بينت لنا أن الشمس هي التي تدور حول الأرض بينما الحقيقة عكس ذلك، إن العقل عند ديكارت وعند العقلانيين يكفي نفسه بنفسه ولا يحتاج لأي شيء خارجي عنه لكي ينتج العلم ويصل إلى اليقين الخالص، فهو مزود بشكل قبلي بمبادئ ومعارف سماها الأفكار الفطرية أو المقولات القبلية وهي كافية للوصول إلى حقيقة كل شيء.
انتقال إلى المناقشة : مواقف تختلف
في مقابل هذه العقلانية العلمية التي تجعل من العقل المصدر الوحيد والأوحد لكل معرفة يقينية ممكنة، تبلور في أوروبا وخاصة في إنجلترا عقلانية علمية أخرى تجعل من التجربة المصدر الوحيد والأوحد لكل معرفة، ومن أبرز ممثليها جون لوك ودافيد هيوم، فعلى عكس ديكارت وأتباعه، اعتبر جون لوكالعقل الإنساني بمثابة صفحة بيضاء، لا توجد فيه أية أفكار أو مفاهيم قبل احتكاكه بالتجربة، فأصل المعرفة العلمية وأداتها الوحيدة في رأي جون لوك هي الحواس ولاشيء يوجد في العقل إلا وسبق وجوده في الحس، ومن أجل توضيح هذا الأمر قام لوك بتشريح العقل الإنساني وبفحص دقيق للأفكار القائمة فيه، إن كل فكرة توجد في العقل إلا وكان مصدرها الأول في الحس، ومن هنا فلا وجود للأفكار الفطرية التي تحدث عنها ديكارت، وأن الأفكار الفطرية ليست سوى أحكام مسبقة تولدت لدينا من زمن ماض بفعل مصدر ما، لكن لطول ألفتنا لها ننسى مصدرها فنعتقد أنها فطرية، والمثال الذي يقدمه جون لوك هو فكرة الله التي اعتبرها ديكارت فطرية قبلية، لكن جون لوك سيرد عليه بالقول: لو كانت فكرة الله فطرية لكانت كونية أي توجد عند جميع أفراد الإنسانية بينما هي ليست كذلك، إذ سيلاحظ أن هناك شعوب لا تتوفر على هذه الفكرة(الله) ومن ثم فهذه الفكرة ليست قبلية ولا فطرية بل هي حكم مسبق، وبالتالي فمصدر المعرفة العلمية واليقينية ليس العقل(النظرية) بل الحواس(التجربة).
توسيع المناقشة بالإنفتاح على الإبستمولوجيا المعاصرة
لكن تطور العلوم وتعرضها لأزمات داخلية خلال القرن التاسع عشر أدى إلى ظهور عقلانية علمية جديدة تختلف عن العقلانية الفلسفية التي جسدها ديكارت ومناقضيه من التجريبيين(جون لوك/هيوم) إذ لم يعد العقل المصدر الوحيد للمعرفة العلمية أو التجربة التلقائية والعفوية، بل حتى التجريب باعتباره مسائلة منهجية للظواهر المدروسة لم يعد كافيا لإنتاج معرفة علمية ويقينية، وفي هذا الصدد نجد هانز رايشنباخ الذي ميز بين العقلانية العلمية والعقلانية الفلسفية، فرغم أنهما يؤكدان على دور العقل، فهما لا يتفقان حول معنى العقل ذاته، فالعقل العلمي عقل رياضي وحسابي يستخدم آلياته الخاصة للوصول إلى اليقين، فالعقلانية العلمية عقلانية ملاحظة ومجربة، لكنها في الرياضيات عقلانية متعالية على الملاحظة والتجربة، حيث تستخدم آليات خاصة في إثبات حقيقة علمية ما، وهنا تصبح التجربة تابعة للعقل(النظرية)، فكلما وقع خلل في نتائجها إلا ووجب على العلماء الإتجاه نحو تعديل التجربة وإعادة النظر في الواقع العلمي، وفي هذا الصدد يقول هانز رايشنباخفي كتابه "نشأة الفلسفة العلمية"عندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة، لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة".إن التجربة هي المنطلق لأي معرفة علمية لكن الرياضيات وحدها قادرة على إنتاج نوع خاص من الحقيقة دون الحاجة إلى الواقع/التجربة.
إذا كان أحد أقطاب الوضعية المنطقية التي حاولت منطقة الفلسفة وتخليصها من الميتافزيقا، فإن ألبرت اينشتاين في كتابه "كيف أرى العالم" يعطي القيمة القصوى للعقل على حساب التجربة، فالتحولات الجذرية التي طالت الفيزياء في بداية القرن العشرين أدى إلى ميلاد عقلانية جديدة تؤمن أن حل مشكلات الفيزياء النظرية يقتضي الاعتماد على العقل الرياضي المحض والعمل على إرغام التجربة على موافقته، لذلك تم استبدال المنهج التجريبي بالمنهج الأكسيومي والذي يقوم على الإنسجام المنطقي الداخلي للنظرية لا على التطابق مع التجربة، فلا يمكن القول حسب إنشتاين أن النظرية العلمية بشكل عام والفيزيائية بشكل خاص تنتج المعرفة العلمية بالإستناد على التجربة بشكل صرف، بل يدخل في تكون هذه المعرفة التي تنتجها العقلانية العلمية الجانب الصوري الخالص، فالتطور الذي عرفته الرياضيات أدى إلى تطور في مفهوم العقل ذاته، فلم تعد غاية العلم هي تجميع الظواهر المتجانسة وتفسيرها وإنما أصبح هدفه هو ترجمة لغة التجربة إلى لغة رياضية، فتتحول الوقائع التجريبية إلى أرقام ورموز بأبسط ما يمكن من المبادئ والمفاهيم العقلية، لكن هذا لا يعني أن العلم أصبح عقليا تأمليا خالصا، ولا النظرية أصبحت صورة مجردة كلية ومنفصلة عن الواقع، بل هي على العكس من ذلك تعكس الواقع الذي تدرسه وتحدد العلاقات القائمة بين ظواهره وتصوغها صياغة رمزية مجردة، وفي هذا الصدد يقول إنشتاين"إنني على يقين أن البناء الرياضي الخالص،يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تسمح بفهم ظواهر الطبيعة.ويمكن للتجربة،طبعا أن توجهنا في اختيار المفاهيم الرياضية التي توظفها، لكن التجربة ليست هي المنبع الذي تصدر عنه، إن المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة بل في العقل الرياضي".
التركيب
إذا كانت العقلانية الكلاسيكية منذ أرسطو إلى ديكارت تؤكد على دور العقل في تأسيس العلم نظرا لكونه يتصف بالشمولية و الإطلاقية ويحمل مبادئ تأسيس هذه المعرفة في ذاته فإن الإتجاه التجريبي أنكر دور العقل في إنتاج المعرفة العلمية وأعطى القيمة للتجربة والحواس في بناء هذه المعرفة وهو ما انتقدته فلسفة العلم المعاصرة والعقلانية النقدية مع كانط، فرايشنباخ مثلا مايز بين العقلانية الفلسفية والعقلانية العلمية التي تنظر للعقل باعتباره أداة مرنة ومنفتحة على التجربة بينما اينشتاين حافظ على دور التجربة في بناء المعرفة العلمية لكنه أعطى القيمة القصوى للإبداع والعقل في بناء المعرفة العلمية واليقينية، وفي هذا الصدد سيعمل الإبستمولوجي المعاصرغاستون باشلار على توجيه نقده لكل هذه الإتجاهات مؤكدا على أن المعرفة العلمية هي نتاج لحوار دائم ومستمر وجدلي بين العقل والتجربة/ بين النظرية والواقع، فالمعرفة العلمية هي إنتاج لذات عارفة SUJETتضع بينها وبين موضوع المعرفة L’objet مسافة تتخلص فيها من كل الأحكام المسبقة التي ستشكل عائقا إبستمولوجيا (معرفيا) un obstacle épistémologique فالعقلانية العلمية ليست عقلانية فلسفية تأملية، بل هي عقلانية مرنة تشتغل انطلاقا من نماذج نظرية تبنيها بشكل دقيق جدا من أجل إخضاع موضوع معرفتها لتجريب العلمي، فالثورات العلمية المعاصرة ممثلة في قيام الهندسات اللاأقليدية وميكانيكا الكوانتا جعلت العلم يراجع مبادئه وهو ما فرض علينا حسب باشلار أن نعيد مراجعة تصورنا للعقل وللنظرية ذاتها، فلم يعد العقل كما تصورته الفلسفات المثالية ثابتا ومنغلقا بل أصبح عقلا منفتحا وتاريخيا يتطور بدوره من خلال المعارف التي ينتجها وفي هذا الصدديقول باشلار: " العقل لا ينتج العلم فحسب بل يتعلم من العلم أيضا"، كما غيرت هذه التحولات من تصورنا للتجربة وللواقع فلم تعد التجربة معطاة، بل مصطنعة خاصة في الميكروفزياء، فالفيلسوف المثالي أو التقليدي كان يقصد الواقع التلقائي والمعطى لكن الواقع في العلم المعاصر هو واقع يتدخل فيه المنهج الذي يضعه العالم نفسه، إنه واقع مبنى.
وهكذا يبدوا تحليلنا لمفهوم العقلانية العلمية من أجل الكشف عن بنيتها قد وضعنا أمام مجموعة من التقابلات، فإذا كانت الفلسفة المثالية قد جعلت العقل مصدرا للمعرفة اليقينية، فإن التجريبية أعطت القيمة للتجربة وللحواس، لكن العلم المعاصر غير من نظرتنا للعقل وللتجربة فلم يعد العقل كاملا وفطريا مزودا بمبادئ توصلنا لليقين ونتساوى في امتلاكه، كما لم تعد التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة العلمية كما رأينا مع رايشنباخ واينشتاين لكن هذا لا يعني إقصائها التام، فقد أعطيت القيمة للإبداع والخيال في إنتاج المعرفة العلمية التي لن تكون في نهاية المطاف مع باشلار سوى حصيلة حوار مستمر بين النظرية والتجربة /العقل والواقع. وفي هذا الصدد يقول "لا يمكن تأسيس العلوم الفيزيائية دون الدخول في حوار فلسفي بين العالم العقلاني والعالم التجريبي"، لكن السؤال الأهم كيف نتأكد من صدق نظرية ما؟ وما المعيار الذي نتمكن من خلاله من الحكم على أن نظرية ما نظرية علمية وتستحق هذا التصنيف؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق