يتفق العديد من فلاسفة العلم والعلماء على القول بأن نظرية ما لا تصبح علمية إلا إذا أثبتتها التجربة، فالاتفاق مع التجربة كما يقول بيير دوهايمP’DUHEM يشكل بالنسبة للنظرية المعيار الوحيد لحقيقتها، لكن ما المقصود بالتجربة وفق هذا القول؟هل المقصود التجربة العفوية والتلقائية التي على العالم ملاحظتها بدقة والإصغاء إليها بأمانة وبدون أية أطر نظرية،
أم أن المقصود بها هو التجربة المصطنعة التي تتم في ظروف ووفق خطوات محددة مسبقا بالنظرية نفسها التي نسعى للتأكد من صدقها؟هل العالم حينما يقوم بالتجربة يكون بمثابة الآلة التي تسجل بأمانة ما تراه وتسمعه في الواقع في استقلال عن الذاتية أم معناه أن العالم هو الذي يشيد ويبني نموذجا تجريبيا وفق خطوات يحددها هو بنفسه؟بعبارة أوجز هل ما يؤكد علمية نظرية ما هو التجربة باعتبارها إنصات وإصغاء وملاحظة للواقع أم هو التجريب باعتباره مساءلة واستنطاق منهجي لهذا الواقع؟ (ارجع للدلالات حتى تميز جيدا بين التجربة والتجريب والنظرية).
أم أن المقصود بها هو التجربة المصطنعة التي تتم في ظروف ووفق خطوات محددة مسبقا بالنظرية نفسها التي نسعى للتأكد من صدقها؟هل العالم حينما يقوم بالتجربة يكون بمثابة الآلة التي تسجل بأمانة ما تراه وتسمعه في الواقع في استقلال عن الذاتية أم معناه أن العالم هو الذي يشيد ويبني نموذجا تجريبيا وفق خطوات يحددها هو بنفسه؟بعبارة أوجز هل ما يؤكد علمية نظرية ما هو التجربة باعتبارها إنصات وإصغاء وملاحظة للواقع أم هو التجريب باعتباره مساءلة واستنطاق منهجي لهذا الواقع؟ (ارجع للدلالات حتى تميز جيدا بين التجربة والتجريب والنظرية).
إن الفكر الفلسفي والعلمي القديم لم يكن يعرف إلا شكلا واحدا من التجربة وهي التجربة الحسية الخام المتمثلة في مجموع معطيات العالم التي تصدم حواس الإنسان وتولّد لديه انطباعات مختلفة. وقد انقسم هؤلاء الفلاسفة بخصوص أهمية التجربة في بناء المعرفة وفهم حقيقة العالم إلى اتجاهين أحدهما يمثله أفلاطون والآخر يمثله أرسطو.
فبالنسبة لأفلاطون ليس للتجربة الحسية أي دور أو أهمية في بناء المعرفة العلمية الحقيقية واليقينية حول موجودات العالم، بل على العكس من ذلك المعرفة الحسية تمثل عائقا على الفيلسوف-العالم التخلص منه إن هو أراد بلوغ الحقيقة واليقين وتجاوز الآراء والظنونDOXA،فالتجربة الحسية كما يصورها أفلاطون في أسطورة الكهف هي بمثابة قيود وأغلال تعيق وتحول دون إدراك المعقولات الثابتة، والحقائق المفارقة الموجودة في عالم المثل الذي توجد فيه المعرفة اليقينية و الثابتة EIDOS فما يوجد في التجربة الحسية والعالم المحسوس مجرد نسخ وظنون متغيرة، لذلك فبلوغ المعرفة اليقينية وبلوغ عالم المثل، لا يتطلب وساطة التجربة الحسية والحواس بل يتطلب التحرر منها.
عكس هذا التصور يدافع أرسطو على دور التجربة في معرفة العالم ويعتبر أنها تمثل نقطة انطلاق لا يمكن لأي معرفة علمية أن تتجاوزها، فحقيقة الموجودات المادية وإن كانت لا تكمن في المظاهر والأعراض التي ندركها بواسطة حواسنا، فهي لا توجد منفصلة عنها ومفارقة لها، وإنما كامنة خلفها ومحايثة لها، وتبعا لذلك فإن استقراء وملاحظة أعراض الموجودات يمثل في رأي أرسطو الخطوة الأولى والضرورية من أجل بناء أي معرفة حقيقة حول العالم وحول الموجودات التي يحتويها ويتألف منها، فقبل الانتقال إلى مرحلة التفسير أي مرحلة البحث عن العلل الأسباب المحددة لأي ظاهرة، يجب المرور بالضرورة بمرحلة الوصف، أي مرحلة الملاحظة الدقيقة لعناصرها و أجزائها وللعلاقات القائمة فيما بينها، وهو ما طبقه أرسطو نفسه في كل أبحاثه الطبيعية، ففي بحثه حول الحركة ومختلف العناصر المؤلفة لها، يبين أنها أي الحركة هي فعل في طور الإنجاز، وأنها ضد السكون، وأنها تحتاج لمحرك ومتحرك ومسافة، فبعد هذا فقط ينتقل أرسطو مباشرة للحديث" عن العلل والأسباب المحركة أي إلى تفسير ظاهرة الحركة بإرجاعها إلى علل وأسباب، وهو دليل على أن التجربة الحسية عند أرسطو هي نقطة انطلاق العلم الفيزيائي مادام موضوع هذا العلم عنده هو الحركة نفسها أو الموجودات من حيث هي متحركة كما يقول أرسطو.
الانتقال إلى المناقشة
في مقابل هذه التصورات التي كانت تعطي القيمة للتجربة بمعناها الحسي الخام والتلقائي سيعرف الفكر العلمي مند مطلع القرن 17 شكل آخر من التجربة هو التجربة المبنية والمشيدة والموجهة بمقتضيات نظرية محددة سلفا، والتي وحدها ستصبح تسمى بالتجربة العلمية، فأمام الانتقادات والمراجعات التي تعرض لها العلم الأرسطي مند بيكون وتيكوبراهي وغاليلي وغيرهم، كان لزاما على العلماء التفكير في المنهج الذي يمكنهم من بلوغ المعرفة والحقيقة وهو ما أفضى إلى ظهور ما يعرف بالمنهج التجريبي القائم على الملاحظة الموجهة والمبنية، فالعالم بدءا من القرن 17 لم يعد يلاحظ(التجربة/الواقع) أولا ثم يفكر ثانيا (النظرية/العقل) كما كان الأمر مع أرسطو، وإنما العكس أصبح العالم يحدد لنفسه مشكلة وفي ضوئها يتجه إلى الواقع لملاحظته، حيث لا يلاحظ أي شيء وكيفما اتفق، وإنما يلاحظ فقط ما يفيده في الجواب عن ذلك المشكل الذي بناه بفكره، فمثلا ظل العلماء على مر الزمان يراقبون السماء ويلاحظون ما يجري فيها، لكن وحده تكوبراهي من لاحظ تكون نجم جديد في السماء وبأن بعض المذنبات تصعد حتى تقترب من الشمس ثم تعود لتقترب من الأرض، وسبب ذلك ليس تطور الأدوات التي كان يستخدمها وإنما كون ملاحظاته كانت موجهة بمشكلات محددة وهي : هل عالم مافوق القمر يطاله الكون والفساد أم انه كما اعتقد أرسطو ثابت لا تغير فيه؟وهل هناك فعلا أفلاك حاملة للكواكب كما اعتقد أرسطو وبطليموس؟ فوجود مثل هذه التساؤلات في ذهن العالم هو الذي جعله يدرك بملاحظته للسماء بأن المذنبات تخترق في مسارها السماء، وبأن في عالم ما فوق القمر نجوم جديدة تتكون وأخرى قديمة تختفي، وما ينطبق على عالم مافوق القمر ينطبق على أي عالم آخر، فبدون تساؤلات يحملها العالم في ذهنه وبدون خطة مسبقة توجه الملاحظة لا يمكن لأية ملاحظة أن تكون منتجة وعلمية، أما عن التجربة التي كانت عند أرسطو وغيرها من القدماء فهي تجربة تلقائية وعفوية وحسية .
لكن في بداية القرن 17 كان التجريب عبارة عن جملة من الإجراءات المختبرية المحددة مسبقا أدواتها وخطواتها، إنها عبارة عن عمليات مقصودة ينجزها العالم نفسه بناء على المعطيات النظرية التي يريد فحصها واعتمادا على وسائل وتقنيات هي نفسها نتاج وحصيلة لنظريات معينة سابقة وتبعا لهذا فالتجربة بمفهومها العلمي الحديث هي عبارة عن استنطاق ومسائلة للواقع وليست مجرد إنصات وملاحظة عمياء، إن التجريب العلمي هو إرغام للطبيعة على البوح بأسرارها وعلى الكشف عن ما تخفيه من قوانين و علاقات وليست مجرد مراقبة وتتبع للظواهر الطبيعية، فمثلا كلود برنار أكد في كتابه "مدخل لدراسة الطب التجريبي" على أن معرفة قوانين الطبيعة وبلوغ المعرفة العلمية يقتضي من الباحث ملاحظة الظاهرة بشكل منظم ودقيق، وانطلاقا من ملاحظتها يصوغ مجموعة من الفرضيات التي تظل مجرد احتمالات قد تكون صادقة أو كاذبة ومن أجل التأكد منها يلجأ لاختبارها، وهو ما يتيح له في النهاية القبض على الفرضية الصحيحة التي يؤسس عليها قانونا مفسرا لظاهرة بشكل عام كما وقع في تجربة الأرانب:
الخطوة الأولى
|
الملاحظة
|
لاحظ كلود برنار بول الأرانب الذي كان صاف وحمضي مع العلم أن المتعارف عليه هو أن بول الأرانب يكون عادة مكدر اللون وغير حمضي لأنها حيوانات عاشبة
|
الخطوة الثانية
|
طرح الفرضية
|
افترض برنار أن هذه الأرانب أخضعت لنظام غدائي يناسب الحيوانات اللاحمة فافترض أنها ربما أخضعت لنظام غدائي يناسب الحيوانات اللاحمة فتحولت بفعل الإمساك الطويل إلى حيوانات تقتات من دمها لتعيش.
|
الخطوة الثالثة
|
مرحلة التجريب المنهجي الموجه بأسئلة من طرف العالم برنار/التوجه إلى التجربة
|
قدم للأرانب طعاما عاشبا وبعد ساعات لاحظ أن بولها أصبح يتخدر وأصبح غير حمضي، ثم أخضعها للإمساك عن الطعام فلاحظ بعد 36 ساعة على أبعد تقدير قد أصبح بولها صافيا وحمضيا وأخضع الخيول لنفس التجربة فاكتشف أن إمساكها عن الطعام يجعلها تنتج حموضة مفاجئة وزيادة في مادة الأوريا (مادة بلورية توجد في بول الحيوانات)
|
الخطوة الرابعة
|
صياغة قانون علمي
|
يخلص برنار إلى قانون علمي مفسر للظاهرة خلص فيه إلى أن كل الحيوانات التي تتغذى باللحم عند إمساكها عن الطعام، بحيث يصبح بولها شبيها ببول الحيوانات العاشبة.
|
من هنا يتضح لنا أن هذا المنهج تكمن قيمته في كونه لايدع فرصة للباحث كي يلقي بميولاته وذاتيته على الظواهر التي يدرسها، بل كل خطوات المنهج تكون خاضعة لتنظيم قبلي يضعه وينتجه العالم من أجل تفادي أي معارف تلقائية أو ظنون بل يتم الإحتكام إلى التجربة العلمية المبنية، فما أكدته يعتبر علميا وما فندته يتم التخلي عنه.
إن التجريب العلمي باعتباره مساءلة منهجية للواقع ساهم في تطور العلم وتقدمه عكس التجربة العفوية والتلقائية والحسية وهكذا أصبح العالم كما يقول كانط في كتابه "نقد العقل الخالص": يواجه الطبيعة وهو يحمل مبادئه التي هي وحدها قادرة أن تمنح للظاهر المتطابقة قوانين صارمة، ويحمل من جهة ثانية التجريب الذي تخيل صورته وفقا لهذه المبادئ. إذ عليه أن يواجه الطبيعة لكي يتعلم منها، ولكن ليس بوصفه تلميذا يتقبل كل ما يريده المعلم، بل بوصفه قاضيا يحث الشهود على الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها عليهم". وفي ظل التحولات التي عرفها العلم المعاصر وظهور معطيات جديدة حيث انتقلنا من الماكروفزياء إلى الميكروفزياء مع اكتشاف الجراثيم والباكتيريات الدقيقة واكتشاف الإلكترونات والفتونات التي لا نملك التقنيات والوسائل للكشف عنها، لكن العالم يقر بوجودها لذلك لم يعد التجريب كافيا لتحقق من صحة فرضية ما بل أصبح بإمكان العلماء أن يلجئوا إلى الإعتماد على الخيال للقيام بتجارب ذهنية وفي هذا الصدد يوجه روني طومR.THOM نقدا لاذعا للقائلين بإطلاقية المنهج التجريبي وصلاحيته اللامتنهاية وبإمكانية شموليته لجميع الظواهر كما ذهب إلى ذلك فرانسيس بيكون وهو ما اعتبره روني طوم مجرد وهم لذلك أكد روني طوم على أن التجربة لا تكون علمية إلا إذا كنا قادرين على إعادة صنعها في مكان وزمان آخر ، كما يربط علمية التجربة العلمية بالأهداف النفعية التي تسعى لتحقيقها وفي هذا السياق يؤكد روني طوم على محدودية الواقع في قوله "إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما، ففي جميع الأحوال ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي، هذه القفزة نحو الخيالي هي أساسا عملية ذهنية، أو تجربة ذهنية، ولا يمكن لأي جهاز علمي أن يعوضها".
التــــــركيب
مما سبق يبدوا لنا أن فلسفة العلوم على وعي تام اليوم بالتحولات الكبرى التي يعرفها العلم والتي تطورت معها آليات اشتغاله وإنتاجه لمعارفه العلمية حول الظواهر التي يدرسها فإذا كانت المعارف العلمية على العموم هي نتاج حوار مستمر بين النظرية والتجربة فإن التجربة التي تحدثنا عنها والتي ساهمت في تطور العلم ليس التجربة الحسية بل التجريب العلمي باعتباره مسائلة منهجية للواقع، فلم يعد العالم يتعامل مع الواقع بعفوية بل انطلاقا من تفكير نظري فإذا كانت التجربة هي معطى خام قائم بذاته في الواقع وسابق على كل تفكير نظري فان التجريب هو عبارة عن فعل وإنجاز يقوم به العالم نفسه بناءا على معارف يمتلكها سلفا وقد يتدخل فيها الخيال، لأن التطور المعاصر والإكتشافات العلمية المعاصرة للجزيئات الذرية وللإلكترون الذي يحوم حول النواة وغيره أثبت محدودية المنهج التجريبي وأعاد الإعتبار للتجربة الذهنية التي تقوم على الخيال الخلاق والمبدع كما يقول انشتاين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق