آخر الأخبار

الخميس، 2 مارس 2017

من فلسفة الجمال إلى علم الجمال: مدخل عام إلى الاستطيقيا

*مصطفى الزاهيد أستاذ الفلسفة المغرب
يعتبر التفكير في الجمال من المواضيع الفلسفية التي نجدها حاضرة في مختلف المتون والتأملات الفلسفية، لكن هذا الحضور، ظل من داخل الفلسفة وضمن إحدى مباحثها الكبرى وهو مبحث الأكسيولوجيا(القيم)، إن فلسفة الجمال هنا هي كل الأفكار والتصورات النظرية العامة التي نجدها لدى الفلاسفة حول موضوعة الجمال،
فنصادفها لديهم كلما تعلق الأمر بحديثهم عن الجمال، فكونفوشيويس في الصين القديمة مثلا،  نجد في أفكاره وتصوراته التي وصلتنا تأملات حول الجمال، والذي يعرفه بكونه  كل ما يقوم  على التناسق والانسجام، بين الفكرة والعمل، أي بين الصورة والجوهر، وبين الجسد والروح، أو لنقل بين الشكل والمضمون، فكلما تحقق الانسجام بين الداخل والخارج صار الشيء جميلا، وكأن تصوره للجمال لايخرج على تصوره لوحدة الوجود القائمة على إلغاء التناقضات بين الخير والشر، بين الألم والفرح...، والتي تعكسها كل الفلسفات الروحية لبلاد الصين القديمة، وهي الأفكار التي ظلت مؤثرة إلى حدود عصر النهضة، كما نجد الاهتمام بالجمال وبالأفكار الجمالية حاضر لدى اليونان وعبر تاريخ الفلسفة، ومادام موضوعنا في هذه المقالة ليس تصورات الفلاسفة للجمال، سنحاول أن نبين كيف انتقلنا من فلسفة الجمال إلى علم الجمال، ولذلك تجدر الإشارة إلى أنه لم ننتقل إلى علم الجمال إلا في حدود النصف الأخير من القرن الثامن عشر، وهو ما يوضحه الفيلسوف الألماني بومغارتن:"عندما عرف هذا الفرع بالإستطيقا، وحدد موضوعه في تلك الدراسات التي تدور حول منطق الشعور والخيال الفني، وهو منطق يختلف كل الاختلاف عن منطق العلم والتفكير العقلي، ومنذ ذلك التاريخ تقريبا صار لعلم الجمال مجاله المستقل عن مجال المعرفة النظرية، وعن مجال السلوك الأخلاقي، وصار في تأكيد هذا الاتجاه الفيلسوف الألماني الكبير إيمانويل كانط الذي انتهى إلى القول أن الخبرة الجمالية لاترجع إلى النشاط النظري الذي يقوم به الذهن، والذي يحدد شروط المعرفة في علوم الرياضة والفيزياء، كما لاترجع إلى النشاط العلمي الذي يحدد السلوك الأخلاقي المعتمد على الإرادة، ولكنه يرجع إلى الشعور باللذة الذي يستند على اللعب الحر بين الخيال والذهن"، ففلسفة الجمال لا تتناول الفنون الجميلة من وجهة نظر تاريخية، بمعنى أن فلسفة الجمال لا تؤرخ للآثار الفنية، بل موضوعها الأساسي هو معاينة العوامل والمؤثرات المساهمة في تشكيل الوعي الجمالي لدى الإنسان، هذا الوعي الذي لايمكن اعتباره بنظري وعيا تلقائيا أو حدسا مباشرا وفطريا يتشكل لدى الذات انطلاقا من مقولاتها ومبادئها الفطرية كما تصورت ذلك الفلسفة الحديثة مع بعض روادها، بل الوعي الجمالي يحتاج إلى تربية  وتنشئة اجتماعية خاصة، فهو ليس ثمرة لإدراكاتنا الطبيعية والمباشرة التي تتشكل في احتكاكنا التلقائي والعفوي مع العالم،-صحيح لدينا القدرة على الانبهار ببعض المشاهد الطبيعية مثل جمالية وردة أو قوس قزح أو حمرة شفق...- لكن هذه المشاهد الطبيعية لا تتحول إلى قيّم جمالية إلا حينما يتم تحويلها إلى أعمال فنية، والى روائع تخرجها من موجودات الطبيعة الخام، وتضفي عليها الحياة، وذلك بتحويلها  إلى قيم جمالية تضفي عليها القيمة، وفي هذا السياق تورد أميرة حلمي مطر في كتابها: "مدخل إلى علم الجمال وفلسفة الفن" كلاما لشارل لاولو يقول فيه "إن الطبيعة ليس لها قيمة جمالية إلا عندما تنظر إليها من خلال فن من الفنون، أو عندما تكون قد ترجمت إلى لغة أو إلى أعمال أبدعتها عقلية أو شكّلها فن وتقنية"، وبهذا المعنى تصير الإستطيقا أو علم الجمال، ليس مجرد أفكار نظرية عامة حول الجمال، فهذا من اختصاص فلسفة الجمال، أما علم الجمال حسب ستيفان كروبر فهو "بحث عن قوانين التذوق الجمالي، وموضوعه هو تلك الأشياء التي نحبها لذاتها، في حين أن باقي الأشياء الأخرى نحبها لأنها وسائل تحقق لنا أهدافا أخرى، وهو يبحث في أبسط الأشياء التي نحبها كالصوت أو اللون أو الخط أو الإيقاع أو الكلمة، ثم في مركبات هذه البسائط الأولية في الأعمال الفنية من عمارة ونحث وتصوير وموسيقى وأدب"، لذلك فإدراك هذه القيم ليس نتيجة عملية معطاة، بل تحتاج لبناء وتوجيه.
 وفي هذا السياق أعتقد بنظري المتواضع أن التربية الفنية إن تم تعميمها وتجذيرها داخل مجتمعاتنا العربية فستكون تربية على الاختلاف بالضرورة، لأن القيم الجمالية في العمق قيم إنسانية وكونية، تقوم على الاختلاف  من شخص لآخر في إدراكهم لها، كل حسب خلفياته النظرية، والمعرفية وحمولاته الإيديولوجية وسياقاته الثقافية، وهكذا  يكون تعميم هذه القيم تعميم للتسامح وتقبّل الآخر، وهو ما جعل العديد من الفلاسفة ومن بينهم كانط يخصص إحدى نقدياته للحكم الجمالي وللقيم الجمالية، ففي كتابه:"نقد ملكة الحكم" يخصصه كانط لفحص الأسس التي يقوم عليها الحكم الجمالي الذي يختلف في تأسيسيّته على الحكم العقلي/المنطقي، "فالحكم على الجميل مختلف عند كانط عن الحكم على موضوعات العالم الخارجي، لأنه حكم منعكس لايقع على الأشياء الخارجية، وإنما يقع على الذات نفسها وما يجري بها إزاء الأشياء الخارجية، ذلك لأن الجميل لايندرج تحت تصور معين من تصورات الذهن، لأنه ليس حكما منطقيا ناتجا عن تعميم ولكنه حكم خاص، فقولي هذه الزنبقة جميلة حكم مختلف عن قولي كل الزنبق جميل". ولكي يحدد لنا كانط الفرق بين الحكم الجمالي والحكم المنطقي، نجده حدد الحكم بالجميل والجليل في أربعة شرط استمدها من قائمة المقولات المنطقية، فحدده من حيث الكيف والكم والجهة والعلاقة، فمن حيث الكيف حدد الجميل بأنه ما يسرنا بغير أن يترتب على سرورنا به منفعة أو فائدة أو لذة حسية، ومن هنا يختلف الجميل عما يسبب اللذة أو ما يرضي حاجة جسمانية. ومن جهة الكم يعرف الجميل بأنه ما يسرنا بطريقة كلية وبغير استخدام أي تصورات عقلية، فوصفي لشيء ما أنه جميل لا يستند إلى أدلة عقلية وبراهين منطقية، ومن ثم فسرورنا وبهجتنا بالجميل لا ترجع إلى دوافع شخصية، أو أسباب خاصة، وهو يفترض اشتراك الجميع في الاعتراف بقيمته الجمالية، ومن حيث الجهة يتصف الجميل بأنه حكم ضروري أي عكسه مستحيل، ويرجع السبب في ذلك إلى أن له أصولا مشتركة لدى جميع أفراد الإنسانية، فالذات الإنسانية طبيعتها واحدة ويمكنها أن تستجيب استجابة واحدة عندما تكون بصدد الجميل. ومن جهة العلاقة يتصف الجميل بأنه يوحي بالغائية بغير أن يتعلق بغاية محددة. وبهذه الشروط أمكن لكانط أن يقدم تفسيرا للحكم الجمالي كان له فيما بعد أبعد الآثار في الفلسفة الحديثة والمعاصرة" حسب أميرة حلمي مطر.
وفي بناء على ذلك، تطرح بعض الإشكالات النظرية والعملية في العلاقة بين علم الجمال والفن، من قبيل: هل عالم الجماليات سيتدخل في عمل الفنان ليحدد له القواعد والقيم التي عليه أن يتبعها أو ينتجها في عمله الفني وهو ما سيلغي الحرية التي تعتبر شرطا هيغيليا في كل عمل فني يتجلى فيه الجميل والجليل ويعبر عن ذاته باعتباره جوهرا يتعالى عن تجاربنا اليومية؟ وتدعيما لذلك عبر أحد علماء الجمال الفرنسي إذ قال: "ينبغي أن لايتدخل علم الجمال في فرض القواعد التي ينبغي أن يتلزم بها الفنان لتحقيق الجمال في إنتاجه، أو أن يتشرط للجمال شروطا معينة، بل هو يبحث في أحكام الناس الجمالية شأنه في ذلك شأن عالم المنطق الذي لايفرض على العلماء قواعد التفكير التي ينبغي عليهم أن يسيروا عليها بل هو يكتفي بتحليل خطوات تفكيرهم".
وإذا أردنا أن نحدد العلاقة بين الفنان المبدع للعمل الفني والناقد المقيم لهذا العمل والفيلسوف المنظر لهذين العملين، فإننا سرعان ما نجد أن المشكلة تمتد بين الفنان والناقد، فالفنان يرى الناقد يقيم عملا وهو لا يعرف كيف يخلقه، تم تمتد المشكلة بين الناقد والفيلسوف لأن الحدود بينهما تظل مبهمة، فالناقد في الوقت الذي يتناول فيه تقييم عمل فني معين يتناول أفكارا متعلقة بالفن، ولكن المشكلة تبدو له حين يجد الفيلسوف يحلل التجربة الجمالية أو العمل الفني لكي يصل إلى معايير أو مبادئ عامة كلية تفسد فردية العمل الفني، لأن مثل هذه الأسئلة عن طبيعة الجمال الفني أو الفن عموما ليست في الواقع إلا أسئلة فلسفية".
ما يجب أن يبقى في الذهن هو أن فلسفة الجمال كما ناقشناه هي أفكار نظرية عامة حول موضوعة الجمال، بينما علم الجمال/الإستطيقا هو تخصص قائم الذات من داخل الفلسفة يعيد طرح أسئلته حول الجميل والقيم الجمالية من أجل فهم منطق الذوق الجمالي وكيف تنتج القيم الجمالية في كليتها؟، وفي هذا، إن كانت الفلسفة قد نحت منذ كانط إلى هيغل في اتجاه تعريف الجمال بكونه ما يتعالى عن تجاربنا الحسية المباشرة ويستمد قيمته من ذاته، فتجدر الإشارة إلى أن هذا التصور سيعرف نقاشا حادا في الفلسفة المعاصرة وسوسيولوجيا الحقل الفني -باعتباره حقل إنتاج هذه القيم الجمالية المتصارع حولها في العمق- حينما تطرق مجموعة من الباحثين سواء في مدرسة فرانكفورت(أدورنو نموذجا)، أو في المدرسة الفرنسية مع بيير بورديو إلى الجمال والقيم الجمالية باعتبارها ليست متعالية على الواقع وعلى التجربة المعاشة للناس، بل إن الجمال وإدراك القيم الجمالة هو جزء لا يتجزأ من السياقات الثقافية  التي تقضي بأن هناك ارتباط بين الظروف والشروط التاريخية لإنتاج عمل فني أو قيم جمالية معينة، وبين شروط استقبال وتلقي هذه الأعمال والقيم، وذلك واضح في دراسته حول زيارة المتاحف الفنية التي تعرض  أعمالا فنية تختزن قيما جمالية يتطلب فهمها تنشئة وتربية وتطبيعا خاصا، لذلك كانت هذه المعارض الفنية حكرا على الطبقات البرجوازية التي يسمح لها تكوينها ووقتها وتحررها النسبي من إكراهات السوق وثقافتها أن تخلق لها فضاءات مستقلة نسبيا تعرض فيها قيما لايمكن إدراكها أو فهمها وتأويلها إلا إذا كان زائرها حاملا لثقافة فنية وتربية جمالية خاصة. فلوحة الجوكندا أو غرنيكا لبيكاسو أو الحذاء لفان كوخ قد تكون من منظور علم الجمال أو فلسفة الجمال تراثا إنسانيا وروائع جمالية وفنية خالدة، لكنها بالنسبة لإسكافي أو إنسان من العامة قد لا تثير فيه أي اهتمام، من هنا يبدوا الجمال قيمة لا تعلوا على الشروط التاريخية والثقافية التي تنتج فيها !.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق