*الزاهيد مصطفى/أستاذ الفلسفة المغرب
يستمد النقاش الفلسفي حول حرية الإنسان قيمته من
التصورات الفلسفية الكلاسيكية التي أعلت من قيمة الأبعاد الجوهرية في الإنسان
بوصفه شخصا و بكونه مفكرا وعاقلا وأخلاقيا وحقوقيا وإيكولوجيا...،
وهو ما قوضته
العلوم الإنسانية بمختلف مقارباتها السيكولوجية والسوسيولوجية والأنثربولوجية، والتي
ركزت في دراساتها على الحتميات التي تقيد الفعل الإنساني وهو ما فرض إعادة النظر
في مجمل التصورات الفلسفية التي نظرت للشخص باعتباره حرا حرية مطلقة، فإذا كنت
أميز نفسي بكوني كائن حر، وحريتي نابعة من
إرادتي العاقلة التي تمنحني الحق في
الاختيار والتمييز بناء على وعيي التام بهذا الاختيار، فإنه في مرات عديدة أجد
نفسي في مواقف أتصرف فيها أو أسلك فيها
انطلاقا من إكراهات داخلية (نفسية/ بيولوجية) أو خارجية (اجتماعية وسياسية
وقانونية وثقافية) -بالمعنى التايلوري النسقي الشامل لمفهوم الثقافة-.وهكذا
فالتفكير في موضوع حرية الشخص بشكل خاص، هو أصلا تفكير في الإنسان ككل، والعكس
صحيح، من هنا نفهم الدلالة العميقة لما قاله غرامشي: عندما اعتبر أن السؤال
"ما الإنسان؟" هو في الأصل سؤال عن مصير الإنسان، أي: هل يمكن أن يتحكم
ويسيطر الإنسان على مصيره الخاص؟ هل هو حر بما يكفي؟ وهل يمكن أن يصبح حرا أكثر،
وبالتالي ما السبيل إلى تقليص الموانع وتوسيع دائرة حريته؟.
1. سارتر: الوجود الإنساني هو عملية اختيار محضة:
ينظر سارتر في كتابه الأساس "الوجود
والعدم" وفي حواره مع بيير نافيل: المنشور بعنوان"الوجودية نزعة
إنسانية" للوجود الإنساني باعتباره فعلا acte وليس حالة état – ولفهم هذا التمييز الذي أقامه سارتر، لابد
من أن نتخيل اللحظة الأولى التي وجدنا فيها عراة في هذا العالم إلى جانب كائنات
أخرى في الطبيعة، ما وقع واكتشفناه بعد مئات الآلاف من السنين و التطور، هو أننا
لم نقبل الحالة التي وجدنا عليها، ورفضناها رفضا تاما، بحيث أنه انتقلنا من العراء
إلى اختراع اللباس، ومن السكن في الطبيعة، إلى الأكواخ، ثم إلى القرى و المدن،
وحينما لم تعد المدن قادرة على تلبية حاجياتنا أسسنا الدول، وحينما مللنا الأرض،
فكرنا في الفضاء، وهكذا يبدوا الوجود الإنساني ليس حالة خام أو جامدة، بل هو عبارة
عن سيرورة يختار فيها الإنسان في كل لحظة تاريخية ما يريد أن يكون عليه، و يرفض
فيها ماهو عليه، بينما الحيوان ظل محافظا على عاداته، وسلوكاته وتصرفاته، لأنه
مبرمج، ولا يملك الملكة التي نتفوق عليه بها وهي العقل، وهذا ما يقصده سارتر في
قوله إن الوجود الإنساني فعل وليس حالة خام، فنحن نرى الإنسان من خلال الأبحاث
الأنثربولوجية الخاصة مثلا بالزواج قد انتقل من الإباحية إلى المأسسة التي تقتضي
حصول الشرعية القانونية والدينية أحيانا في بعض المجتمعات اليوم، لكننا لم نرى يوما مجتمعا للقردة أو الأسود قد
أسسوا مؤسسات ثقافية وقانونية يوثقون فيها عقود الزواج أو يقننونها – هكذا يكون الوجود
في صميمه عند سارتر هو انتقال من الإمكانية إلى الواقعية، وهو ما يعني بحرية
الإرادة الإنسانية عند سارتر، فالوجود الطبيعي Dasien الممنوح لنا قبل أي
مجهود شخصي لا يحيل إلى واقعة تجريبية، بل هو وجود لا ينفصل في ماهيته عن فعل
الحرية الذي يقوم به الإنسان ويعبر عنه من خلال فعل الاختيار، فأنا من أختار نفسي،
وأحدد مصيري و أخلق ذاتي، لأن الوجود عند سارتر متماه مع الاختيار، فالوجود في
العمق ليس إلا فعل اختيار يقدم عليه الشخص، فإذا كان ديكارت يقول "بأنا أفكر،
فأنا إذن موجود" ففي الوجودية يصبح الكوجيطو الوجودي هو "أنا أختار، إذن
أنا موجود"، فالإنسان عند سارتر حر حرية مطلقة مادام يرفض تقبّل تأثيرات
التجربة تقبلا تلقائيا، بل يتعالى على
التجربة بواسطة فعل الحرية الذي يمكنه من اختيار ما يريد أن يكون عليه، فالحرية
عند سارتر ليست معطاة بشكل قبلي وتلقائي، بل الإنسان هو من يساهم في تحقيقها
وخلقها، فالإنسان لا يوجد حسب سارتر إلا إذا اختار نفسه بحرية عاملا على خلق ذاته،
فالإنسان عند سارتر هو قدرة على الفعل، لكن الإنسان عند سارتر لا يمكنه أن يقيم في
صورة واحدة من صور الوجود التي يختارها وهذا ما يرفضه سارتر بقوله "من الخطأ
أن يعتقد الإنسان أنه لكي يوجد يكفي أن يختار ما يريد مرة واحدة، معتقدا أنه
سيختار صورة نهائية لا تقبل المراجعة، بل ينبغي أن نتذكر على أن الإنسان يواصل
سلسلة اختياراته دون أن يتحجر في صورة ثابتة مطلقة، ومعنى هذا أنه لكي يوجد المرء
حقا فلا بد له من أن يعمل باستمرار على تمييز الممكنات الحقيقية التي ينطوي عليها
وجوده، وذلك بملاحظة "الموجود الجديد الذي ينبثق من سلسلة أفعاله السابقة، فالإنسان
عند سارتر يتعالى على كل جبرية معينة، إنه خاضع فقط لحرية فعله واختياره، فالإنسان
عند سارتر قادر على اختيار شخصيته وماهيته لأنه الكائن الوحيد الذي ينحصر وجوده في
حريته، أما باقي الموجودات فإنها خاضعة لجبرية صارمة بمقتضاها تسير أفعالها، ويؤكد سارتر ذلك
في كتابه "الوجود والعدم" بقوله"إنه ليس في حياتنا عوارض أو ظروف
خاصة، فأي حدث جمعي يقع في حياتنا لا يمكن اعتباره حدثا مفاجئا قد صدر من الخارج،
ثم تلبّس بنا مجرد تلبس:"إن الحرب التي جندت لها هي حربي أنا، فهي صورتي
ومثالي، وهي الحرب التي أستحقها، وهذا ما عبر عنه جيل رومان JULES ROMAINE بقوله" ليس في
الحرب ضحايا بريئة" فأنا إذن مسؤول عن تلك الحرب، لأنني ما دمت لم أتخلف عنها
فكأنني أردتها، وتبعا لذلك علي تحمل مسؤوليتي تجاه الخيارات التي أقدم عليها وهو
ما يؤكده سارتر بقوله "إنني مسؤول عن كل شيء، ومسؤوليتي تمتد حتى على تلك الحرب
التي اشتركت فيها، كأنني أنا الذي أعلنتها"، ما يمكن الخلوص إليه بوضوح مع سارتر هو كون
الشخص حر حرية مطلقة، لكنه مسؤول في نفس الآن عن أفعاله واختياراته لأنه هو الوحيد
الذي اختارها بمحض إرادته وهو ما يوضحه سارتر في "الوجودية نزعة
إنسانية"بصريح القول:" وهكذا فإننا لا نجد خلفنا ولا أمامنا في
الميدان الإنساني، قيما، ولا تبريرات أو أعذارا. نوجد وحدنا من دون أعذار. وهذا ما
أعبر عنه بالقول"الإنسان محكوم عليه بالحرية" محكوم عليه لأنه ليس هو من
خلق نفسه، في حين أنه مع ذلك يكون حرا، لأنه بمجرد ما يلقى به في العالم يكون
مسؤولا عن كل ما يفعل. ولا يقر الوجودي بسلطان الإنفعال. إنه لن يتصور أبدا
انفعالا جميلا قد أصبح سيلا جارفا يؤدي حتما بالإنسان إلى أفعال معينة فيكون ذلك
بمثابة العذر. إنه يعتبر الإنسان مسؤولا عن انفعاله".
2. تصور الان تورين: الحرية هي نضال مستمر للذات الفاعلة ضد كل أشكال التسلط
في كتابه الموسوم "براديغما جديدة لفهم عالم
اليوم" يناقش آلان تورين الذات الفاعلة وعلاقتها بالحتميات الاجتماعية،
موجها نقدا لكل التصورات الميتافيزيقية التي نظرت للإنسان من خلال دوره الاجتماعي (هربرت
ميد مثلا) أو من خلال التزامه بقضايا عمومية (مونيي) أو من خلال فردانيته
(ايركسون)، بل يدافع الان تورين على كون الشخص كجوهر أو كوجود فردي في عالم صوري خالص، لم يعد مقولة قادرة على
مقاومة الابتذال الذي يعرفه العالم اليوم، وكذلك الإنحرافات التي أدى إليها تطور
الحداثة الغربية، كما وجه ألان تورين نقدا لاذعا
للفلسفة الديكارتية التي تنظر لحرية الإنسان من خلال قدرته على الإنعزال
والتحكم في الرغبات والأهواء، بل تكمن حرية الشخص Personne الذي
عوضه الان تورين بالفاعل l’acteur أي بالذات الفاعلة التي تكمن حريتها في فعلها
المقاوم لكل أشكال الابتذال والتحكم التي تفرضها وسائل الإعلام والثقافة الجماهيرية وأنظمة
السلطة، فالفاعلl’acteur لا يستمد حريته من خلال وعيه بفردانيته، لأن
الفردانية هي مقولة إيديولوجية غايتها عزل الأفراد من أجل التحكم بهم.
فحرية الذات الفاعلة عند الان تورين تستمدها من خلال
"الصراع ضد نقيض الذات وأشكال منطق
السلطة"على حد قوله، إن ما يؤكد عليه الان تورين هو أن الذات لا
تكون حرة إلا إذا قاومت عالم الاستهلاك وكل وسائله الإيديولوجية، وفي هذا الصدد
يقول ألان تورين في كتابه 'براديغما جديدة لفهم عالم اليوم':"إنني أحدد
الذات الفاعلة بمقاومتها عالم الاستهلاك اللاشخصي أو عالم العنف والحرب، إن الذات
الفاعلة هي استحضار للذات، هي إرادة العودة للذات بعكس تيار الحياة العادية، إن
فكرة الذات الفاعلة تستدعي إلى خاطري فكرة النضال الإجتماعي، إضافة إلى فكرة الوعي
الطبقي والشعور القومي في مجتمعات سالفة، لكن بمضمون مختلف ينأى على كل تمظهر
خارجي، ويتجه مع بقائه صراعيا نحو الذات بالكامل، لذا كان أول ما خطر ببالي من أجل
توضيح فكرة الذات الفاعلة صور المقاومين، صور المقاتلين من أجل الحرية".
هكذا فحرية
الشخص ليست معطاة سلفا ولا يمكن الوعي بها في معزل عن حركية الواقع بل الذات
الفاعلة لا تكون حرة إلا من خلال نضالها المستمر على جميع المستويات الثقافية
والسياسية من أجل الحصول على حريتها. ويمكن إجمال ما قلناه في كون الحرية إبداع مستمر
يساهم فيه الكائن الإنساني بانخراطه في حركية الواقع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق