*الزاهيد مصطفى/ أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بالمغرب
في هذا العمل الفريد
والمتفرد للفنان الفلسطيني المقيم بالسعودية أيمن يسري، نجد تعبيرا صارخا عن عمق الأزمة التي يعيشها إنسان
مابعد الحداثة، وعن عمق الأزمة التي أوصلنا إليها(الأفكلورنغ)العقل
الأنواري،
في هذا السياق يمكننا قراءة لوحة الجوكندا للفنان أيمن يسري التي تحتاج
إلى رؤية وإلى إستحضار السياق والبعد التاريخي أكثر من المكون اللوني، ومن هنا
يستمد هذا العمل الفني تميزه ضمن حقل الفن المعاصر، ويمكن تركيز هذه الأبعاد
المهمة التي لا بد من إستحضارها عند قراءة هذا العمل الفني الذي عرضه أيمن يسري ضمن معرضه
محارم بجدة في:
1. البعد التاريخي :قراءة اللوحة بآستحضار فلسفة عصر النهضة والقيم التي نادت بها في هذه
المرحلة، على آعتبار حضور صورة "الموناليزا" له دلالته الخاصة والهامة
والتي تقربنا من رؤية هذا الفنان المتألق للفن ولما بعد الحداثة .
2. الوعي النوعي بالراهن :لابد من قراءة كل مكون في سياقه التاريخي بآعتباره وعيا نوعيا خاصا
بمرحلته وليس إستمرارية للموروث، مع ربطه
بباقي المكونات الفنية داخل اللوحة معتمدين القراءة من الداخل، والقراءة المنفتحة على
باقي الحقول المعرفية في نفس الآن، من أجل وعي ملتزم بالسياق الذي أنتجت فيه هذه
اللوحة، كما يجب الإبتعاد على القراءة المدرسية التي تركن وتستكين لمحددات قد تجعل
من العمل الفني الذي يحتوي دائما بعدا إستشرافيا قالبا جامدا.
3. البعد القيمي : كل عمل فني حامل لقيم يمكن أن تكون موازية أو مضادة، حسب التصور الذي يأطر
الفنان، والقراءة الفاعلة هي التي تحاور العمل الفني بمعرفة نقدية قصد الوقوف على
خلفياته وسياقه وإستشرافاته .
يمكن أن نقسم قراءتنا لهذا العمل المتفرد إلى مستويين: مستوى وصفي لمكونات
اللوحة الفنية ولعلاماتها الأيقونية، ومستوى تحليلي تأويلي نحاول من خلاله ربط العلامة بدلالتها
لعلنا نقترب من المعنى وليس إعطاء معنى لها.
في المستوى الأول: نلاحظ تبأيرا la focalisation لأحد مكونات الجوكندا وهي صورة المرأة المبتسمة في الجوكندا، لكن داخل علبة
سردين وهناك مفتاح لهذه العلبة، وفي الأعلى هناك لون أصفر بينما في الأسفل هناك
موج لألوان قاتمة يمكن أن نحدد منها المكون اللوني الأخضر البارد وكأنه لون غدير،
وهناك وجود لوجوه مصطكة وشاحبة، كل منها ينظر للآخر.
يهدف الفنان أيمن يسري من
خلال المكون الدلالي ''الجوكندا'' الحاضر على مستوى بؤرة اللوحة إلى إثارة الذاكرة
واستدعائها لتتمثل Représenter مرحلة ساهمت في تشكيل التاريخ الإنساني، إنها
مرحلة الإحياء المسماة ب: ''النهضة''La Renaissance، وإعادة
الإعتبار للكائن الإنساني، بوصفه قيمة في ذاته غير خاضعة لمنطق الإقتصاد والتداول
والسلعنة، هنا تكمن أصالة هذا المتفرد أيمن يسري الذي يسمي نفسه ب''الديدبان''
فهو بتعبير هيجل Hegel''لا يستحضر الفن، الأشكال
والألوان والأصوات المحسوسة كغاية في ذاتها وعبر مظهرها الحسي المباشر، بل
يستحضرها لكي يشبع اهتمامات فكرية سامية لأنها قادرة كلها على أن تخلق صدى داخل
أعماق الوعي والفكر''وهذا هو ما يستدعيه توظيف الفنان أيمن يسري للوحة "الجوكندا"
في الكائن الإنساني، إنها تذكره بماضيه وكذلك بحاضره وحثه على الإسهام في تثويره (بمعنى
تغييره). هذا الوضع الذي يمكن للفنان أن يساهم فيه، فإذا كان هيدغر تحدث في
مقاربته لعصر التقنية على أن الإنسان نسي الوجود ولم يعد يستمع إليه، فإن أيمن
يسري يؤكد على أن الإنسان نسي ذاته وطبيعته القائمة على التوازن: نسي قيمه وتاريخه
وإنسانيته ومثله العليا التي تعتبر ''النهضة'' أسمى مراحلها، غير أن المثير في هذه
اللوحة هو المكون الدلالي ''الجوكندا'' الدال على الإنسانية والتاريخ
والقيم المثلى حيث وضعت داخل علبة سردين رخيصة ومبتذلة فما دلالة هذا التوظيف؟
على هذا الأساس تصبح علبة سردين
مكون دلالي داخل اللوحة لا يختزل في ذاته، بل مكون راهني منفتح وهنا لا أقصد
بالراهن الأرشيف أو لحظة فلاشية، بل أقصد به لحظة ديالكتيكية بقدر ما تمتد في
الماضي فهي تستشرف المستقبل بناء على الحاضر، وبالتالي فمكون علبة سردين لم يعد دالا على ذاته فقط، بل على حقبة تاريخية
ينتمي إليها، تتميز بالتسليع والهيمنة والسيطرة الشاملة للتقنية وتغلغلها في نسيج
الحياة الإجتماعية، فعلبة سردين داخل اللوحة تنتمي لعصر ميزته السرعة والترشيد
المتزايد للوقت والأشياء والذوات، من أجل ضبط الفاعلين فيه خدمة للنشاط الإقتصادي
المتنامي، الذي لم يعد يعترف بالشيء إلا بمقدار ما يدره من فائدة، فكل شيء قابل
للبيع والشراء، وكل قيمة قابلة للتداول أو أنها تصبح فاقدة القيمة، المرأة في
الإشهار والرجل في الإشهار والتراث في الإشهار، كل ما هنالك تقديس للعلامات وتبخيس
للأفراد وتنميط لقيمهم، هذا هو المبدأ الأساس، أما الغاية فهي الربح، كيفما كانت
الوسيلة.
في هذا السياق يمكن فهم عبقرية الفنان الفلسطيني أيمن يسري ''الديدبان''
ورائعته الجوكندا في علبة سردين، فدمج مكونين دلاليين من حقب تاريخية مختلفة "الجوكندا"
من القرن 16، وعلبة سردين من القرن العشرين، دليل صارخ على ما وصلت إليه الإنسانية
من إبتذال وتبخيس، فكأن أيمن يسري يقول لنا من خلال هاته اللوحة: إن هذا العصر الذي نعيشه هو عصر تعليب وسلعنة
لكل شيء، فلقد أصبح كل شيء قابل للتداول وخاضع لقيمة البيع والشراء، فلم يعد هناك
شيء جدير بالتقديس، فحتى القيم الإنسانية والحضارية والتاريخية تم تعليبها، لقد
قوض العقل ذاته، فلم يعد ينتج لنا قيم الحرية والسلام والكرامة، بل أصبح ينتج قيم
السلب والنفي والإستبعاد، ولكن هناك أمل يحيل عليه في اللوحة مفتاح علبة السردين
غير أن هذا المفتاح يمكن قراءته في منحيين:
1.
مفتاح دال على الأمل بحيث أن تقويض عصر التقنية لن يتم
للإنسانية دون الرجوع لعصر ''النهضة''، وتمجيد القيم النبيلة وبعتها وإعادة الاعتبار
للإنسان والتعامل معه كغاية لا كوسيلة، حيت أن سلامة هذه القراءة تكمن في أن داخل
علبة سردين يوجد وجه "الجوكندا" الدال على حقبة تاريخية لها عميق الأثر
في البشرية.
2.
مفتاح دال على وجود شخص أو مؤسسة x لها الرغبة في نفي كل القيم الإنسانية وتحويلها إلى شيء قابل
للإستهلاك والتداول /البيع والشراء.
هذا الإبهام /الإستبهام: أي جعل هذا الدمج لمكون علبة سردين
والجوكندا والمفتاح مبهما دون تحديد القائم على فتح العلبة له دلالته ورمزيته،
ويؤشر لنا على عبقرية فنية لدى أيمن يسري تكمن في تركه المساحة للقارئ بأن
يخمن ويستنفر ذهنيته من أجل الإلمام باللوحة، ووضعها في سياقها، بعيدا عن القراءات
المدرسية الجافة، التي تبقى عند حدود الألوان والتصنيف ضمن مدارس معينة، فمادام
العصر كما أعلن عليه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار عصر النسخ وعصر انهيار المبدأ المؤسس
للواقع وغياب النسقية، لا سواء في الكتابة الفلسفية أو العلوم أو في الفن، فإن
الحديث عن إنتماء أيمن يسري إلى مدرسة معينة يبقى ضرب من الكلام.
وفي الأسفل تطالعنا مجموعة من الوجوه الشاحبة التي يحول بينها وبين بؤرة
اللوحة اللون الغديري (نسبة الى لون الغدير)، وهو ما يمكن ربطه باللوحة، حيت تتميز
ثقافة مابعد الحداثة عند أيمن يسري أو عند العديد من المفكرين كونها ثقافة الحشد والاغتراب،
وهو ما يناقشه مافيزولي في كتابه "تأمل العالم في فصل معنون بالنقاش الجمعاني".
لا يمكن أن ندعي أن قراءتنا هي الواحدة والوحيدة، وهذا لن يقوم
به إلا مغرور أو جاهل بموقعه في حركة التاريخ، ولكن يمكن أن نقول أن هذه القراءة
الأقرب، مع العلم أننا تجاهلنا قراءة أخرى نظرا لغياب مكونات دالة على محوريتها في
اللوحة كحضور تيمة المرأة ''المركز'' والجنس، وبحثنا عن الرؤية والعبقرية لدى
الفنان أيمن يسري، كان من أجل إستجلاء الفن كموقف من العالم عند أيمن يسري. فهو
موقف متوجس من ما بعد الحداثة ومن التقنية التي تغلغلت في النسيج الاجتماعي
للأفراد، غير أن هذا التخوف بنظري عند الفنان أيمن يسري نظرا لما أستشفه من
لوحاته الأخرى ليس رفضا للتقنية بالمرة والمطلق، وهو ما لا يجب فهمه من لوحاته بل
هو رفض للمضمون الذي تمرره التقنية والسياقات التي توظف فيها التقنية، فرفضه لقيم
العلم ليس رفضا للعلم في حد ذاته، بل للقيم التي قد توظف ضدا على أهداف هذا الأخير النبيلة.ما
أخلص إليه من خلال تتبعي لأعمال هذا المتفرد: هو أن الإنسان تدفعه غريزته للبقاء
وتدفعه الروح الخلاقة للإبداع، لذلك سيساهم
الفن بقتلنا من أجل تحقيق غاية نبيلة هي الوصول للكمال .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق