وفي بداية اليوم الدراسي ألقى مدير المركز الإقليمي
كلمة ترحيبية بالمشاركين، وبالمحتفى به معبرا عن سعادته بهذا اللقاء العلمي الذي
صار تقليدا داخل شعبة الفلسفة منوها بالجهود المبذولة من طرف الأساتذة للرقي
بالتكوين وإعطاء إشعاع جهوي ووطني للمركز. وفي نفس السياق قدم الأستاذ حسن الحريري
رئيس شعبة الفلسفة بالفرع الإقليمي بخريبكة، كلمة شكر في بدايتها الإدارة الجهوية
للمركز الجهوي بني ملال خنيفرة بكل أطرها وفاعليها، على دعمهم اللوجستيكي والمادي
لهذا اليوم الدراسي، الذي اعتبره استمرارا لتقليد ترسخ بالمركز، وهو التقليد الذي
يدمج الأنشطة الثقافية في إطار تصور استراتيجي للتكوين والتأطير، غايته وضع
الأساتذة المتدربين وطلبة المركز في قلب القضايا الثقافية والتربوية والبيداغوجية
التي يستعدون لتنزيلها، نظرا وممارسة بعد تخرجهم، بل اعتبر الأيام الدراسية
بالمركز، انفتاحا ثقافيا وعموميا للمركز على محيطه الثقافي، وذلك في إطار مواكبة مستجدات أوراش
الإصلاح التربوي في بلادنا، وعليه؛ عبّأت كل الهياكل البحثية في المركز من أجل
تحقيق ذلك، إيمانا من شعبة الفلسفة بالانخراط في أوراش الإصلاح الكبرى التي تضمنتها الرؤية الاستراتيجية؛ خاصة
المتعلق الشق المتعلق منها بالتكوين والتأطير والتأهيل للموارد البشرية، بل اعتبر
هذا التقليد مساهمة في تطوير الدرس الفلسفي والممارسة الفلسفية في المغرب، بيداغوجيا وديداكتيكيا. والاهتمام
بالبلاغة والفلسفة هو اختيار واع من الشعبة؛ وتأكيد منها على أن الممارسة الفلسفية
الفصلية الجيدة تتطلب من مدرسي المستقبل الانفتاح على الحقول المعرفية المجاورة
للدرس الفلسفي، وتنويع المقاربات الفلسفية، والبلاغة بنظره أحد الأركان الضرورية
لمدرسي الفلسفة، بغية تحقيق هذا التنويع في مقاربة إشكالاتهم ونصوصهم مع المتعلمين،
حتى نكوّن متعلما حاملا للحس النقدي من داخل الفلسفة، وننمي لديه البعد الاستطيقي والنسقي
في مقاربة النصوص داخل العملية التعليمية التعلمية، وقد أكد رئيس شعبة الفلسفة أن
الدرس الفلسفي مطالب لكي ينمو ويتطور ويزدهر، أن يخرج من دائرة انغلاقه قصد معانقة
مفعولات الحقول المعرفية الأخرى، وأن يكون مرنا لكي لا يتخشب، فالفلسفة بخلاف
العلم مطالبة بتغذية إشكالاتها ورؤاها وتصوراتها في ضوء نتائج العلوم
المجاورة لها أو المنفصلة عنها، وهو
التعقيد والتعدد الذي يوازي تعقيد الإنسان، لذلك كانت مهمة تطوير درس الفلسفة ورشا
مفتوحا؛ لا يعني فقط أساتذة الفلسفة؛ بل يهم أيضا أساتذة البلاغة والعلوم
الإنسانية واللسانيات والعلوم المعرفية...وهكذا يتحقق الانفتاح، وأنهى كلمته بتوجيه
الشكر لكل مكونات المركز إدارة وطاقما تربويا وطلبة على دعمهم وحضورهم، كما شكر
المحتفى به والأساتذة المحاضرين.
وفي الجلسة العلمية
الأولى حاضر الأستاذ والمكون بالمركز الجهوي بني ملال خنيفرة، عبد الفتاح كمري، في
موضوع: "البلاغة والفلسفة من منظور تاريخ الفلسفة"، مسلطا الضوء
على العلاقة التاريخية القديمة والمرتبكة التي
تجمعهما، منطلقا من سياق النشأة، وصولا
إلى سياق الأزمة، ملامسا التخوم العميقة
لجذور المشكلة البلاغية عند الإغريق، انطلاقا من التراث الفلسفي اليوناني، معتمدا
قراءة إشكالية واستشكالية، معتبرا كتاب "البلاغة والفلسفة" للبلاغي
إدريس جبري، عبارة عن مقالة في المفارقات، سواء على مستوى المفاهيم أو على
مستوى الخطابات، كما بين الأستاذ عبد الفتاح كمري
تجليات العلاقة بين البلاغة والفلسفة في الفترة اليونانية على ضوء هذا
الكتاب، و عرج بالتفصيل على المرحلة السفسطائية والأفلاطونية، وباقي المراحل بالتمحيص
والتوضيح، معتبرا أن الخلاف في قلب المدينة كان يجري حسب جبري بين من يحكم ومن
يربي في المدينة، كانت له تداعيات وأصداء تجاوزت حدود الواقع إلى مفاصل الفلسفة
والسياسة والأخلاق، وهو ما يعكسه اختلاف
التصورات بين المتحاورين في قلب المتون الأفلاطونية. حيث اعتبر كتاب البلاغي
المغربي إدريس جبري من الكتب المهمة التي استطاعت أن تعيد قراءة إشكاليات التراث الفلسفي،
انطلاقا من أفق مغاير لما دأب عليه شراح التراث، فالمقاربة البلاغية تعطي للتراث الفلسفي
بنظره نفسا جديدا لاستئناف القول الفلسفي.
في نفس السياق ومن منظور آخر، حاضر الأستاذ
والباحث المصطفى الصديق من مديرية الفقيه بن صالح حول: "استراتيجيات
القراءة البلاغية في كتاب إدريس جبري، من المنطق إلى الحجاج الفلسفي: النصوص
الفلسفية نموذجا"، مغنيا النقاش بالتطرق إلى معاني الفلسفة والبلاغة من
منظور تاريخ الفلسفة، كاشفا التقنيات والآليات الخطابية لدى الدكتور جبري في
محاججته على السجالات الدائرة في قلب هذا الكتاب، مستحضرا أهم المحطات في تاريخ
البلاغة منذ المرحلة السفسطائية مرورا بالبلاغة لدى العرب القدماء ووصولا إلى
البلاغة الجديدة مع بيرلمان وتيتكا، مبينا التأثير الذي مارسه أرسطو في تصورنا
للبلاغة من خلال كتابه "الخطابة"، مبينا الحدود الفاصلة بين الحجاج
والمنطق للكشف عن حضورهما في كتاب البلاغي إدريس جبري المتمكن من الصنعة البلاغية،
منوها بتمكن البلاغي المغربي إدريس جبري من المنجز الفلسفي والبلاغي وقدرته على محاورتهما،
محددا التقاطعات والتمفصلات بينهما، كاشفا عن استراتيجياته القرائية في تعريّة
المفاهيم التي شكلت بؤرة الخلاف بين السفسطائية والبلاغيين، موضحا أسس الخلاف
انطلاقا من سجالات الجابري مع خصومه على
أرضية الديمقراطية والعلمانية والدين، منتهيا إلى تحديد أوجه الخلاف بين الجابري
وطه عبد الرحمان بخصوص الحداثة.
وفي المداخلة الثالثة للأستاذ مصطفى الزاهيد ، والتي
كان مدارها حول: " صراع التأويلات: من سلطة التأويل إلى الحق في التأويل،
التنازع في كتاب البلاغة والفلسفة لإدريس جبري"، انطلق الأستاذ الزاهيد من
تحديد مفهوم التأويل الذي اعتبره ضرورة قصوى في قراءة النصوص، وذلك بغية التحرر من
سلطة التأويل، فالدافع للتأويل بنظره هو البحث عن ترميم المعنى الذي يتعرض
للنسيان باستمرار، وتنظيم المعنى
الذي ينفلت من الفهم، وتحرير المعنى من سلطة النص والمؤسسات التي تحتكر التأويل، حيث
صنف كتاب البلاغي إدريس جبري في سياق الكتب الحية والاستراتيجية، التي لا يمكن الاكتفاء بمدحها والاحتفاء بها، بل اعتبره من
الكتب التي تدفعك للدفاع عن نفسك عبر الاشتباك مع سلطة التأويل الذي يسعى كل كتاب
لتأسيسها، كما ربط الباحث بين التنوير والتأويل، فالتنوير هو ممارسة للحق في
التأويل، ووفق هذه الاستراتيجية قارب الزاهيد مصطفى كتاب البلاغي إدريس جبري،
مبينا الاستراتيجيات التي حكمته في بنيته الحجاجية،(من قبيل الحجاج
الشخصي/استراتيجية الاستفاضة والاسهاب، الحجاج بالالتزام/...)؛ مؤمثلا على ذلك
بنصوص شكلت موطن الخلاف بين الجابري وطرابيشي وطه عبد الرحمان، مبينا وكاشفا
لاستراتيجية البلاغي المغربي إدريس جبري في تناوله لمجايلي الجابري، منتهيا إلى أن
المقاربة البلاغية لإدريس جبري الذي جمع بين التنظير للبلاغة في الحقل الجامعي،
وممارستها في الفضاء العمومي، تمنحنا نصا حيا يمكن للمدرسين والباحثين الاسترشاد
به بغيت ممارستهم لحقهم في التأويل، وهو الحق الذي تتيح ممارسته الآليات البلاغية
واستراتيجياتها في سياسة القول وإنتاجه. وعليه طرح سؤاله قائلا: هل المقاربة
البلاغية في عمقها مقاربة إبستيمولوجية أم مقاربة إيديولوجية للابيستمولوجيا؟.
أما الفترة المسائية فقد تم إنجازها بشكل مبدع
في التكوين، من خلال ورشات تطبيقية حول البلاغة والفلسفة، أطرها الدكتور عبد
الكبير الشميطي وهو أستاذ مكون بالمركز الجهوي،: وعنوانها "تحليل الأثر
الفلسفي في تعريف الاستعارة؛ من علم الكلام إلى الفلسفة الحديثة"، انطلاقا من نص تراثي في البلاغة للجاحظ وآخر لعبد القاهر الجرجاني، مقارنا
تصورهما للاستعارة على ضوء النظريات الكلاسيكية والحديثة في البلاغة، مبينا أن
القول الفلسفي في الاستعارة لم يكن ممكنا فصله عن القول الكلامي للمدرستين اللتين
مثلهما كل من الجاحظ والجرجاني، وهو العمل الذي أنجزه طلبة المركز على شكل مجموعات
قدمت بحضور البلاغي المغربي إدريس جبري الذي عبر عن بالغ إعجابه بالطريقة المبدعة للدكتور عبد الكبير الشميطي، التي انتقلت بنا من
الأسلوب العمودي في إلى الافقي، مبينا أن غاية البلاغة تحققت لأنها اشركت الغير في
إنتاج قولها وتبرير خطابها، معبرا عن شديد تقديره لما قدم بصدد كتابه من مقاربات،
وقراءات اعتبرها على لسان عبد السلام بنعبد العالي: "قراءات رافعة
لرأسها"، مبينا أن القراءة الصادقة هي التي تتجاوز المدح وتشتبك مع الكتاب،
قاتلة المؤلف ومؤسسة للمعنى المتعدد والمضياف على نقيص المعنى الواحد الذي يمكن
لسلطة تأويل ما أن تحتكره.
وفي الختام عبّر السيد
رئيس شعبة الفلسفة عن عميق امتنانه للحضور وللمحتفى به، مقدما له شهادة تقديرية
وواعدا بأيام دراسية أخرى السنة القادمة، معتبرا أن هذا الوطن العظيم في حاجة إلى
تعبئة كل الموارد والقدرات وشحذ رأسماله اللامادي وخاصة الثقافي منه في إنجاح هذا
الرهان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق