آخر الأخبار

الثلاثاء، 28 فبراير 2017

معايير علمية النظريات العلمية



*ذ الزاهيد مصطفى
يتم تصنيف المعارف إلى علمية وعادية، فالمعارف العلمية هي نتاج نظريات علمية تتسم المعرفة التي تنتجها بالإطلاقية والشمولية، بينما المعارف العادية والتلقائية هي نتاج الخبرة المباشرة الني نكتسبها من خلال احتكاكنا بالواقع، لكن من خلال تأملنا في التحولات التي عرفتها العلوم و الثورات التي حدثت على مستواها والتي مست أسسها ويقينياتها،  يمكننا التساؤل حول المعيار الذي يمكن من خلاله أن نحكم على علمية نظرية علمية، فماهي الخصائص والشروط الواجب توفرها في نظرية ما لتكون نظرية علمية؟ بعبارة أخرى، ماهي معايير علمية النظريات العلمية؟ وما هي مقاييس صدقها وصلاحيتها؟ هل التطابق مع التجربة (الواقع) أم الاتساق والإنسجام المنطقي الداخلي بين مبادئها؟

مستوى التحليل
بصدد نفس الإشكال نجد العديد من التصورات الإبستمولوجية والتحليلية(نسبة إلى الفلسفة التحليلية) تناصر مبدأ التحقق التجريبي مع حلقة فيينا مثلا أو رواد الوضعية المنطقية الذين حاولوا منطقة العالم، فرودولف كارناب R.Carnap يرى أن النظرية العلمية ليست سوى تمثيل صوري لمعطيات مادية، أي أنها نسق من القضايا العلمية التي يقابل كل منها واقعة مادية أو جزئية، وكل نظرية تتضمن قضايا لا يقابلها أي شيء في الواقع فهي ليست نظرية علمية وإنما هي مجرد قول ميتافزيقي لامعنى له، لذلك كانت أول خطوة ينبغي القيام بها للتأكد من صلاحية نظرية علمية ما حسب كارناب ورواد الوضعية المنطقية هو فحص عباراتها للتأكد من أن جميعها تتوفر على معنى، أي لكل منها مقابل مادي محسوس في الواقع، وإذا نجحت النظرية في هذا الفحص، وثبت بأنها لا تتألف إلا من العبارات التي لها معنى، نمر إلى الخطوة الثانية التي تتمثل في القيام بتحليل منطقي لبنائها وذلك عبر إعادة صياغتها صياغة رمزية تتحول بموجبها إلى رموز، ومن هنا فوظيفة الفلسفة حسب كارناب هي تحليل وترجمة القضايا العلمية إلى قضايا منطقية من أجل وضع لغة موحدة للعلم مكان اللغات المتباينة في كل من الرياضيات والبيولوجيا...لقد جعل كارناب من مبدأ القابلية لتحقق التجريبي أساسا للتأكد من صدق النظريات العلمية ومن كل القضايا، وباعتبار أن الميتافيزيقا لا يمكن التحقق منها تجريبيا أي لا تحمل معنى الصدق التجريبي لإثباتها حسبه فهي مجرد لغو أي خالية من أي معنى وبالتالي كل ما لا يمكن التحقق تجريبيا منه ولا معنى له يجب إخراجه من دائرة العلم كما تقول إليزابيث كليمون وشانتال دومونك في كتابهما الفلسفة من الألف إلى الياء.
الانتقال إلى المناقشة
عكس هذا التصور الذي يرى في مبدأ التحقق التجريبي المعيار الذي يمكننا من الحكم على نظرية ما بكونها علمية نجد كارل بوبر الذي أيد هذا المبدأ في بداية مشواره العلمي سيتخلى عنه  و عن أفكار الوضعية المنطقية في كتابه "عقم المنهج التجريبي "و"المجتمع المفتوح وأعداؤه" حيث عبر كارل بوبر عن عدم اطمئنانه واقتناعه بمعيار التحقق التجريبي كمبدأ لتمييز بين العلم واللاعلم لذلك قال"كنت أعرف أشهر الأجوبة المقبولة حول مشكلتي وهي أن العلم يتميز عن اللاعلم، عن الميتافزيقا بمنهجه الإمبريقي الإستقرائي أساسا، لكن هذه الأجوبة لم تقنعني بل على العكس لقد صغت مشكلتي كمشكلة تمييز بين المنهج الإمبريقي الأصيل وبين المنهج الإمبريقي المزيف" والمقصود بالمنهج الإمبريقي المزيف هو منهج الوضعية المنطقية التي دافعت عن مبدأ التحقق التجريبي ومطابقة المقولات المنطقية للواقع المادي كأساس لصحة النظريات العلمية وصدقها بينما كارل بوبر يؤكد على مبدأ القابلية للتكذيب وهو مبدأ الغاية منه إخضاع النظرية للتكذيب أي البحث عن أخطائها بل الدفع بها نحو التخطيء، فمنهج بوبر منهج مزدوج فهو لا يكتفي بتقييم النظرية العلمية والإقرار بأنها قابلة للتكذيب، بل يطلب من الباحث في كتابه "منطق البحث العلمي "إخضاعها لاختبارات قاسية، وغايته من وراء ذلك إبعاد سياق العلم عن الجمود وادعاء اليقين التام، فالنظرية التي تجتاز الإختبار تؤكد صدقها وصحتها في الوقت الراهن فقط-كما يرى بوبر-لأن إمكانية تكذيبها قائمة وتتحقق هذه الإمكانية في اللحظة التي تعجز فيها النظرية عن حل مشكلة من مشاكل البحث العلمي، مثلما يبذل الطالب جهدا كبيرا لتجاوز اختبارات مدرسية في سبيل الحصول على وسام التفوق على زملائه، كذلك النظرية العلمية تتعرض لاختبارات قاسية في سبيل تكريس مبادئها ويعطينا كارل بوبر مثال بنظرية انشتاين في الجاذبية قابلة للاختبار إلى أعلى الدرجات لأنها تتنبأ بانحرافات معينة عن المدارات الكوكبية عند نيوتن وهذا التنبؤ يمكن تفنيده.
مستوى التركيب
يتضح لنا من خلال تحليلنا لمجمل الإشكالات التي طرحناها بغاية الوقوف على المبدأ التي نتأكد من خلاله من صحة علمية نظرية ما، أن الإتجاهات الوضعية المعاصرة التي نشأت مع حلقة فيينا بزعامة رودولف كارناب وبرتراند راسل وفريجه، أكدوا على معيار التحقق التجريبي لكن فشل مشروعهم في منطقة العالم وخلق لغة صورية تكون موحدة لكل العلوم جعل كارل بوبر يتخلى عن هذا المبدأ الذي سيتحول إلى ميتافيزيقا جديدة تسعى وراء المطابقة بين النظرية والتجربة/بين العقل والواقع، بينما العالم المفتوح لم يعد فيه مجال للمطابقة أو التحقق التجريبي لأن كل الأسس التقليدية للعلم (اليقين /الحقيقة المطلقة/السطح المستوي...)،تم نقدها لذلك اقترح كارل بوبر مبدأ القابلية للتكذيب، فالنظريات صحيحة وعلمية ما لم نكن قادرين على إظهار عيوبها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق