*ذ الزاهيد
مصطفى
خاضت العلوم الإنسانية نقاشات إبستمولوجية من
أجل انتزاع الاعتراف بمشروعية ضرورتها كعلوم لديها مواضيعها و مناهجها ومقارباتها
الخاصة التي تعمل من خلالها على دراسة مواضيعها، فنجد مثلا إميل دوركايم يحاور
الإتجاهات السيكولوجية والفلسفية من أجل أن يجد لموضوع علمه السوسيولوجي موضوعا
ومنهجا،
كما نجد فرويد يدافع عن علمية الموضوعات التي يدرسها وعن قيمة المناهج
التي يوظفها، لكن مادمنا خلصنا في المحور الخاص بموضعة الظاهرة الإنسانية إلى
صعوبة تحقيق موضوعية شبيهة بالموضوعية في العلوم الحقة، فالإشكال المطروح هنا
يتلخص في: أي منهج تقوم عليه العلوم الإنسانية؟ هل تعتمد على التفسير كما في
العلوم التجريبية أم أن خصوصية الموضوعات التي تدرسها يجعل ما تقدمه ليس سوى
تأويلا وفهما من بين تأويلات أخرى يمكن أن تعطى للموضوع المدروس؟وهل يمكن إخضاع
الظاهرة الإنسانية ومقاربتها بنفس المناهج
التي نقارب بها الموضوع الطبيعي في العلوم الحقة؟.
التحليل
مع العودة إلى الاتجاه الوضعي الذي تأسس مع
أوغست كونت وتطور مع إميل دوركايم نجد إميل
دوركايم يؤكد على قيمة التفسير في العلوم الإجتماعية وخاصة علم الاجتماع،
فإذا كان المنهج التجريبي قد حقق نجاحات ملموسة في مجال العلوم الطبيعية، فنفس
الشيء ينطبق على العلوم الإنسانية، وعندما يقول دوركايم في كتابه "قواعد
المنهج السوسيولوجي"بضرورة فهم الظواهر الإجتماعية كأشياء"فهو هنا
يدعونا لموضعتها وفهمها من الخارج لا من الداخل، أي على أساس الملاحظة والإختبار
أي على أساس فهمها من الخارج وليس من الداخل، فهو في الحقيقة لم يفهمها "كأشياء
مادية" بل كأشياء مجردة، لذلك يؤكد في قواعد المنهج على ضرورة تفسير
الظواهر الإجتماعية بالظواهر الإجتماعية، وهو هنا لا يجعل الظاهرة الإجتماعية
مرتبطة بالفرد، بل يجعلها متعالية عليه ولها وجود خارج وجود الأفراد ووعيهم،
ولدراستها يجب تفسيرها تفسيرا موضوعيا بعيدا عن التصورات الميتافيزيقية والتأملات
الجوهرية، لذلك دافع إميل دوركايم على إمكانية تطبيق التفسير الموضوعي في علم
الاجتماع مثلما فعل هو في دراسته الشهيرة في كتابه "الانتحار" حيث
عمل على تفسيرها تفسيرا موضوعيا اعتمادا على المنهج المقارن متحررا من تمثلاته
وأحاسيسه ومعارفه المسبقة والجاهزة حول الموضوع،وهي الخطوات نفسها التي يطبقها
العلماء في العلوم الطبيعية، ففسر ظهور الانتحار بالاستعانة بالمنهج الإحصائي
وأرجع الظاهرة إلى الفروق القائمة في درجات التضامن الإجتماعي، فكلما زاد التضامن
والتماسك الإجتماعي بين الأفراد كلما قلت نسب الإنتحار وكلما تفكك الرابط
الاجتماعي بين الأفراد كلما تفشى الإنتحار، وفي نفس الاتجاه سعى علم النفس
السلوكي مثلا مع واطسون إلى تأسيس علم نفس تجريبي قادر على تفسير السلوكات
الإنسانية والتنبؤ بها وذلك في سبيل حل مشكلات إدراكية أو تعليمية أو اجتماعية.
الإنتقال إلى المناقشة
إجابة على الإشكال المطروح يوجه كلود ليفي
ستراوش نقدا للنزعة التجريبية الخالصة في العلوم الإنسانية، موضحا أنه إذا كان
للتفسير والتنبؤ أهمية قصوى في العلوم الطبيعية، فإنه لا يمكن الجزم بأهميته
ونجاحه في العلوم الإنسانية، ويرجع ذلك حسب ليفي ستراوس إلى كون الذين سعوا إلى
إخضاع الظواهر الإنسانية للتفسير والتنبؤ لم يحققا نتائج مهمة في هذا الباب،لذلك
فالعلوم الإنسانية لا يمكنها أن تستغرق في التفسير كما يحدث في العلوم الطبيعية
كما لا يمكنها أن تصل إلى درجة من التنبؤ كما يقع في العلوم الطبيعية، بل تكمن
قيمة العلوم الإنسانية في المراوحة بين التفسير والتنبؤ من أجل بناء معرفة حول
موضوع دراستها، هذا النوع من المعرفة الذي ستؤسسه العلوم الإنسانية يصفه ليفي
شتراوس في كتابه "الأنثربولوجيا البنيوية" بالحكمة وفي هذا
الصدد يقول" إن العلوم الإنسانية لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا،ولا تتنبأ
بيقين تام، غير أنه بتفسيرها المحدود للظواهر وبتنبئها غير الأكيد، يمكنها أن تقدم
للذين يمارسون، انطلاقا من نتائجها،شيئا وسيطا بين المعرفة الخالصة والمعرفة
النافعة، أي نوعا من الحكمة التي تسمح بتحسين الأداء، لكن من غير الفصل النهائي
بين التفسير والفهم".
في نفس السياق سيطرح الفيلسوف الهرمينوطيقي دلتاي تصورا مختلفا يدافع فيه على ضرورة
التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، فإذا كانت العلوم الطبيعية تتعامل
مع موضوعات مجردة تجريدا حسيا وخالية من المعنى أو القيمة أو الروح فإن هذه
الخصائص تعتبر من بين العوائق التي تحول دون نجاح منهج التفسير والتنبؤ في العلوم
الإنسانية، لأن الظاهرة في العلوم الإنسانية ليست معطاة وهي مليئة بالدلالة
والمعاني المستبطنة، لذلك إذا كان منهج التفسير صالحا فذلك لا ينطبق على العلوم
الإنسانية، ويعطي مثالا دلتاي بعلوم الروح أي علم النفس، وهنا يؤكد على أنه في
العلوم الإنسانية يجب أن يتم التركيز على الوصف لخبراتنا المعاشة، فالسمة المميزة
لهذه العلوم هي الفهم وتأويل التعبيرات، والفرد هو الموضوع المباشر للتفهم، ومن
بين الفروقات الأساسية بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية حسب ديلتاي والتي
تجعل التفسير يفقد صلاحيته حين يطبق في العلوم الإنسانية هو كون علوم الطبيعة
خالية من القيمة وتحررها من القيمة هو مصدر موضوعيتها، بينما كل بحث في العلوم
الإنسانية هو بحث أكسيولوجي يقوم على موقف قيمة، لأن الإنسان لا يمكنه أن يتحرر من
القيم، لذلك سلوكاته وأفعاله وتعبيراته لا يمكن إخضاعها للتكميم والتفسير والتنبؤ
كما في العلوم الطبيعية بل يمكن فهمها وتأويلها تأويلا عقلانيا يعيد بنائها
بتفكيكها وإعطائها دلالاتها العميقة، وفي هذا الصدد يقول ديلتاي"تتميز
العلوم الروحية عن العلوم الطبيعية بكون موضوع هذه الأخيرة عبارة عن ظواهر تتقدم
للوعي باعتبارها ظواهر معزولة وخارجية، في حين تتمظهر هذه الظواهر للعلوم
باعتبارها مجموعا حيا".
التركيب
ما يمكن الخلوص إليه هو أن شبهة التأسيس التي
رافقت العلوم الإنسانية، والتي سعت إبان ظهورها في أن تكون فيزياء اجتماعية مع
أوغست كونت أو فزيولوجيا اجتماعية مع سان
سيمون، ساعية إلى محاكاة العلوم التجريبية في إقامتها لعلم إنساني يدرس الظواهر و
السلوكات الإنسانية بمناهج العلوم الطبيعية ساعين لتحقيق علمية تمكنهم من التفسير
والتنبؤ بالسلوكات والأفعال الإنسانية، وهو ما واجهته العديد من العوائق متمثلة في
صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية وفصلها عن ذاتيه الباحث في هذا المجال، كما تتمثل
الصعوبة في تعقيد الظاهرة الإنسانية التي يصعب تكميمها أو عزلها أو تقسيمها على
غرار ما يقوم به العالم في المختبر، إذ الأفعال الإنسانية هي نتاج في الأخير
تتداخل فيه العديد من الأبعاد: الدينية والعاطفية والسياسية والإقتصادية، بل حتى
احتكاك الإنسان بالعالم الخارجي واستبطانه لهذا العالم يؤثر في هذه الظاهرة لذلك
كان منهج الفهم الذي وضعه الهرمينوطيقيون(التأويليون) هو الأنسب لهذه الظواهر إذ
يبقى هدف الهرمينوطيقي هو البحث عن الدلالات التي تكتسيها الأفعال عند الفاعلين
الإجتماعيين كما يسميهم ماكس فيبر، فمعنى الفعل لا يوجد خارجا بل في الدلالة التي
يعطيها له الفرد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق