*ذ الزاهيد
مصطفى
سعت العلوم الإنسانية مند نشأتها على محاكاة
العلوم الطبيعية في مناهجها وعلميتها،هذا الإغراء الذي مارسته العلوم الطبيعية على
حقول معرفية متعددة، ومن بينها علوم الإنسان سيطرح العديد من الصعوبات
الإبستمولوجية والتي تمثلت في خصوصية الموضوع وخصوصية المنهج، فإذا كانت الظاهرة
الطبيعية قابلة للعزل في العلوم الطبيعية ويمكننا تشكيل معرفة دقيقة حولها، فإن
الظاهرة في العلوم الإنسانية معقدة ومترابطة تتداخل فيها أبعاد متعددة كما أن
المنهج الذي يمكننا
في العلوم الإنسانية من التفسير والتكميم والتنبؤ، فإنه في
العلوم الإنسانية يكون قاصرا مادمنا نتعامل مع موضوع حي ومنتج كما يقول مشيل فوكو
وديناميكي يصعب حصره وتحديد سلوكاته وتوقعاتها عبر الزمان والمكان ومن هنا تطرح
الإشكالية: أي نموذج للعلمية يمكن أن تؤسس له العلوم الإنسانية ؟ هل ستكون علميتها
نموذجا واستنساخا للعلمية في العلوم الطبيعية أم أنها مطالبة نظرا لخصوصية موضوعها
أن تبدع نموذجا خاصا للعلمية يتلائم مع طبيعة الموضوع الذي تدرسه؟
مستوى التحليل
يرى أوغست كونت أن العلوم الإنسانية وبالضبط علم الاجتماع
كنموذج بأن هناك إمكانية لتقوم علوم إنسانية شبيهة بالعلوم التجريبية، قادرة على
تفسير وتكميم وتوقع حدوث هذه السلوكات، كما طالب في كتابه "محاضرات في
الفلسفة الوضعية" بضرورة الربط بين النظرية والمنهج بشكل تجريبي ورفض أي
حديث نظري أو مجرد عن الظواهر الإنسانية،فالتطبيق هو الذي يكشف صحة وخطأ النظرية
لذلك أكد على غرار العلوم الطبيعية ضرورة الترابط بين النظرية والتجربة لتحقيق
العلمية حيث قال "إن معيار الحقيقة والعلم هو التطبيق" وفي نفس الإتجاه سعى إميل دوركايم إلى التأكيد
على أن العلوم الإنسانية قادرة على بناء نموذج للعلمية يسترشد بخطوات المنهج
العلمي داخل العلوم الطبيعية، فإذا كانت العلمية في العلوم الطبيعية تقوم على
الموضوعية التي تقتضي الفصل بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، مع الاستعانة
بمجموعة من الخطوات المنهجية كالملاحظة وصياغة الفرضية والتجريب ثم التنبؤ أي
صياغة قانون مفسر للظاهرة فانه في كتابه "قواعد المنهج السوسيولوجي" سعى
في نفس السياق مؤكدا على الخطوات الدقيقة التي على العالم الإلتزام بها لكي تكون
دراسته علمية، فالباحث في العلوم الإنسانية يعتمد الملاحظة الموجهة وليست
التلقائية في دراسته للظاهرة الإجتماعية وهو نفس ما يقوم به العالم الفيزيائي، كما
أن العالم الفيزيائي يطرح فرضية قبل التوجه للميدان ليختبرها فإن الباحث في العلوم
الإنسانية يقوم بنفس الخطوات، فهو يبني فرضياته ويتجه لإخضاعها للتجريب ثم يصل في
النهاية إلى تفسير للظاهرة شبيه بالقانون أو يوازي القانون الذي يصوغه العالم،
وعلى هذا الأساس نظر دوركايم للظواهر الإجتماعية باعتبارها أشياء مستقلة وخارجية
توجد خارج الأفراد وتمارس قهرا عليهم لذلك فهي قابلة للملاحظة والدراسة والتفسير.
الانتقال إلى المناقشة
إذا كان الإتجاه الوضعي داخل العلوم
الإنسانية وداخل علم الاجتماع مع كل من أوغست كونت وإميل دوركايم قد رأى في العلوم
الطبيعية وفي علميتها نموذجا قابلا للنقل والتوظيف داخل العلوم الإنسانية من أجل
تحقيق درجة من العلمية توازي العلوم الطبيعية فإن
جان لادريير سيوجه نقدا لاذعا للتصور الوضعي الذي يرى في منهج التفسير
والتنبؤ نموذجا يوصلنا إلى تحقيق العلمية في العلوم الإنسانية كما وجه نقدا لمنهج
الفهم والتأويل مؤكدا على أن هذه النماذج حينما يتم نقلها إلى العلوم الإنسانية
تسقطنا في العديد من العوائق الإبستمولوجية، فمثلا الإتجاه الوضعي مع دوركايم الذي
اعتبر الظواهر الاجتماعية بمثابة وقائع وأشياء خارجية قد أدى إلى قتلها وفقدانها
حيويتها بينما الإتجاه الهرمينوطيقي والتفهمي قد يؤدي إلى تضخم الأنا وطغيانها
وإسقاطنا في الذاتية أثناء دراسة الظواهر الإنسانية لذلك يقترح جان لادريير أن
تظل الذات مجرد مشاهد وملاحظ ومراقب يسجل بأمانة ما تعبر وتفصح عنه الظاهرة،
وثانيا التفكير في خلق منهج نسقي يوظف نتائج كل العلوم من أجل الإلمام بالظاهرة
وفك رموزها وتعبيراتها ودلالاتها.
التركيب
إن العلوم الإنسانية كان قدرها ولا يزال هو
شبهة التأسيس التي لم تكن منذ بداية بدافع الإستقلال عن العلوم الحقة بل سعت إلى
المحاكاة والتطابق مع العلوم الطبيعية، متناسية أن موضوع الطبيعة جامد وثابت ومعطى
بشكل قبلي أمام الذات العارفة، بينما الموضوع الإنساني يظل شبيها بصندوق باندورا
المليء بالحقائق والعجائب لا يمكن أن نؤسس حوله تفسيرا واحدا ووحيدا، ولا يمكننا
عزله أو إدخاله للمختبر وتكميمه في رموز وعلاقات كما يفعل العالم الطبيعي، فمثلا
جميعنا نعرف أن الماء هو الهيدروجين والأكسجين لكن لا نستطيع أن نعطي تفسيرا وحيدا
لظاهرة الإنتحار أو الجريمة أو الدعارة باعتبارها ظواهر اجتماعية وإنسانية، فقد
قال الإتجاه الوضعي مثلا مع دوركايم في كتابه الانتحار أن سبب الإنتحار هو غياب
الرابط الإجتماعي وتفككه داخل المجتمع بينما نجد مجتمعات يكون فيها الرابط
الاجتماعي قويا ومع ذلك تعرف حالات انتحار عديدة، وقد يعتبر البعض أن الوضع
الاقتصادي هو سبب في ظهور ظاهرة الدعارة لكن مجتمعات تعرف تقسيما عادلا للثروة
والعدالة الإجتماعية ومع ذلك توجد فيها الظاهرة، من هنا يظل الفعل الإنساني
والظاهرة الإنسانية نسبية و عصية على التكميم ولكنها قابلة للتأويل والفهم استنادا
إلى كل العلوم كما يرى فوكو فمادام الإنسان حدثا معاصرا فيمكننا أن نوظف جميع
العلوم -لسانية ومعرفية وسيكولوجية واجتماعية ونيرولوجية- في فهم سلوكاته، لكن رغم
ذلك يظل الإنسان شبيها برأس ميدوزا في
الأسطورة الإغريقية فكلما اقتربت العلوم منه وشكلت حوله فهما أو تفسيرا أو تأويلا
واعتقدت أنه نهائي ومطلق إلا وتخشبت تلك التفسيرات والتأويلات وانهارت فاسحة
المجال أمام تأويلات وتفسيرات جديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق