ذ.الزاهيد مصطفى
في تعريف مفهوم العنف
في
اللغة نجد أن العنف ضد الرفق، أما اصطلاحا فقد تعددت تعريفاته بتعدد الفلسفات ومناهج
المعرفة المستخدمة فى تعريفه، وتعدد زوايا النظر إليه، ومن هذه التعريفات: أولا : فعل
مضاد للرفق،ومرادف للشدة والقسوة (المعجم الفلسفي/ جميل صليبا )، ثانيا: خطاب أو
فعل مؤذ أو مدمر يقوم به
فرد أو جماعة ضد أخرى( باربرا ويتمر)، وعرفه بول فولكي في القاموس التربوي :باللجوء
غير المشروع إلى القوة، سواء للدفاع عن حقوق الفرد أو حقوق الجماعة، بينما يدل العنف في تعريفه الأكثر تداولا على كل سلوك يلحق أذى بالغير، سواء كان
ذلك الأذى ماديا أو معنويا، ويعرفه لالاند في معجمه الفلسفي بأنه الإستخدام
غير المشروع للقوة، وترى
حنة أرندت في كتابها "من الكذب إلى العنف" أن القوة لا تتحول إلى عنف
إلا عندما تستخدم كأداة للسيطرة والهيمنة، وفي هذا الصد تقول"السلطان والقوة
والسلطة والعنف، كلها كلمات تدل على الوسائل التي يستعملها الإنسان من أجل الهيمنة
على الإنسان وهي كلها مترادفات لأنها تقوم بنفس الوظيفة"، لأن العنف الإنساني حسب حنة ارندت يتميز بطابعه الغائي لأنه يقوم على القصد
والتنظيم والإرادة وهذا ما يميزه على العنف الحيواني.
إن
العنف إذن واقعة اجتماعية وتاريخية انتشرت في المجتمعات الإنسانية القديمة
والراهنة، بل أكثر من ذلك، إن تطور البشرية صاحبه تطوير تقنيات ووسائل ممارسة
العنف وهو ما يجعلنا نتساءل: ما العنف وهل هو فطري متأصل في الإنسان، أم أنه
سلوك مكتسب ناتج عن الثقافة التي يستمد منها الفرد الأسس المعيارية التي ينظر بها
للعالم؟وما هي أشكال العنف التي تمارس في الواقع من طرف الإنسان على الإنسان ومن
دولة تجاه دولة أخرى،هل يمكن حصر العنف فيما هو مادي(الحرب مثلا) أم أن للعنف
أشكال لا مرئية ولطيفة وناعمة يتم تقبلها
وكأنها أفعال مشروعة؟
التحليل / سيجموند فرويد إن العنف فطري ومتأصل في الإنسان
بالعودة إلى تاريخ الفلسفة والعلوم الإنسانية
نجد اختلافا في تفسير أسباب العنف وبواعثه لدى العديد من الباحثين والفلاسفة
والعلماء وفي هذا الصدد واستنادا إلى دراساته الإكلينيكية في التحليل النفسي خلص
سيجموند فرويد ودافع على أن هناك نزوع عدواني فطري متأصل في الإنسان، مما
يعني أن العنف ليس سلوكا مكتسبا بل هو ميل طبيعي يتجسد لدى الإنسان مند اللحظة
الأولى خاصة في علاقة الرضيع بأمه، فالرغبة في ثدي الأم حسب فرويد لا تعبر عن حاجة
بيولوجية إلى الأكل فحسب بل تعبر عن الرغبة كذلك في إشباع لذاته الجنسية وإلى
تصريف رغباته وهو ما يعبر عنه بالبكاء، لذلك سعى الإنسان بكل أنساقه الثقافية
والأخلاقية والدينية إلى الحد من عدوانية الأفراد وكبح رغباتهم ودفعهم للتسامي بها
فيما يرضي الأنا الأعلى أو كبتها أحيانا على مستوى اللاشعور، وهكذا ففي غياب
الثقافة حسب فرويد لا يوجد ما يكبح ميل الإنسان إلى العنف والتدمير تجاه الإنسان، وفي
هذا الصدد يصنف فرويد الغرائز البشرية إلى نوعين: غرائز الحياةEros وغرائز الموت
Thanatos وهذا النوع الثاني من
الغرائز هو ما يدفع الإنسان إلى التصرف بعنف وقسوة تجاه ذاته
"المازوشية" وتجاه غيره "السادية" sadisme ويفسر فرويد الميل للعنف بالعديد من العوامل
النفسية والاجتماعية و بالرغبات الدفينة و بالعقد النفسية غير الشعورية وفي هذا الصدد يقول نتشه :" نشعر
بارتياح حين نرى الآخرين يتألمون، ونشعر بارتياح أكبر حين نؤلمهم.إنها حقيقة
قاسية، ولكنها حقيقة قديمة وقوية".
مناقشة داخلية لموقف سيجموند فرويد/كونراد
لورينتز لايمكن القضاء على العنف بالخطابات الأخلاقية
في نفس السياق يدافع كونراد لورينتز
على أن العنف باعتباره فعلا عدوانيا هو فطري في الإنسان، كما هو الأمر لدى سائر
الحيوانات، غير أن القضاء عليه يستوجب آليات كابحة له، تستمد من نفس المصدر المولد
للعنف، المتمثل في الغريزة والإنفعال، والقضاء على العنف يقتضي التحكم في الغرائز
والانفعالات المولدة له، وهكذا اعتبر كونراد لورينتز أن الاعتماد على الأخلاق
والعقل والمعايير الإجتماعية والأنساق الثقافية لا يمكن أن يحقق ذلك مادام أن
العنف والعقل من طبيعتين مختلفتين، وهو ما يجعله مختلفا مع فرويد ومع طوماس هوبز
إذ تبدوا الثقافة هنا عديمة الجدوى في إمداد الأفراد بما يكبح عدوانيتهم.
تصورات فلسفية وسيكولوجية ترى أن العنف مكتسب ويعود إلى البيئة الخارجية
وهو رمزي ومادي/ إيريك فروم
على النقيض من فرويد يرفض إريك فروم
أن يكون أصل العنف فطري ومتأصل في الإنسان بل يعود إلى مجموعة من العوامل
الخارجية، فالإنسان لا يلجأ إلى العنف من أجل التخريب والتدمير، ويستدل على ذلك
بمماثلة بين دلالة الدم في حضارتنا الذي يحيل على العنف ورمزيته لدى الحضارات
والشعوب القديمة، فالدم كان يرمز إلى الطقوس والشعائر الدينية وإلى الاستجابة لهذه
الطقوس بدمه كدليل على إخلاصه لها، أما الحروب في عالمنا فقد كانت نتيجة ظروف
خارجية اقتضت من الإنسان اللجوء إلى العنف لأجل تحقيق رغباته وأهدافه وفي هذا
الصدد يقول إريك فروم "ليست الطبيعية البشرية نفسها هي التي تدفع فجأة إلى
القيام بهذه الممارسات، بل هنالك طاقة تدميرية كامنة تغذيها بعض الظروف الخارجية
والأحداث المفاجئة فتدفع بها إلى الظهور".
المناقشة/ أشكال العنف (هناك العنف الرمزي مع
بيير بورديو) و(العنف المادي مع كلوزفيتش وميخائيل والزار)
وهكذا يبدوا العنف ثارة باعتباره تعبير عن
ميل طبيعي في الإنسان وثارة أخرى باعتباره استجابة لظروف خارجية، وسوءا كان العنف فطريا
في الإنسان أم تعبير عن ظروف خارجية، هو في العمق جسد عجز الإنسان رغم ادعائه
للعقلانية والقدرة على استخدام العقل على التخلص منه بل إن العقلانية وانتصار
العلم أدى إلى تطوير آليات للتطويع والهيمنة تحول معها العقل من أداة للتحرر إلى
عقل أداتي للسيطرة والسلب والنفي والتشييء وهكذا أصبع العنف يشتغل من خلال
استراتيجيات وتكتيكات دقيقة جدا وفي هذا الصدد
نجد عالم الاجتماع المعاصر بيير بورديو يتحدث في كتابيه "الهيمنة
الدكورية" و "إعادة الإنتاج" عن العنف الرمزي الذي هو عنف غير فيزيائي،
يتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة والإيديولوجيا، وهو شكل لطيف وغير محسوس
من العنف، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم. وينتقد بورديو الفكر الماركسي الذي
لم يولي اهتماما كبيرا للأشكال المختلفة للعنف الرمزي، مهتما أكثر بأشكال العنف المادي
والاقتصادي. كما أشار بورديو إلى أن العنف الرمزي يمارس تأثيره حتى في المجال الاقتصادي
نفسه، كما أنه فعال ويحقق نتائج أكثر من تلك التي يمكن أن يحققها العنف المادي أو البوليسي.يعرِّف بورديو العنف
الرمزي بأنه القدرة على فرض دلالات ومعانِ معينة بوصفها دلالات ومعانِ شرعية،
وإخفاء علاقات القوة التي تمثل الأساس الذي ترتكز عليه هذه القدرة، وينطبق المفهوم على
أي تكوين اجتماعي يتم إدراكه كنسق للقوة . وتعد التربية بكل تجلياتها: في المنزل،
في العمل، في المدرسة، في الإعلام مصدراً للعنف الرمزي فالنشاط التربوي مثلا:
حسب ما يرى بورديو يمثل موضوعياً نوعاً من العنف الرمزي، وذلك باعتباره فرض
من قبل جهة عليا"متعسفة"، حيث تسهم مختلف الأنشطة التربوية في توطيد
هيمنة الطبقة المسيطرة، وتعمل في ذات الوقت على ترسيخ الأنشطة التربوية المطلوبة
لمعارفها وخبراتها حيث يحدد النشاط التربوي الغالب قيمتها في السوق الاقتصادية أو
الرمزية وقد أفاض بورديو في شرح تلك الفكرة عند حديثه عن التقابل بين الذكورة
والأنوثة ، فهو يرى أن الوسيلة في تطبيع Naturalisation التقابل بين الذكورة والأنوثة هي إدخال
تلك الثنائية في سلسلة من التقابلات التي تعمل على حصر المرأة في مواقع محددة:
منزلية ورعوية في مقابل المواقع الذكورية التي تنتشر في الفضاء العام، وهكذا إن التقابل بين الذكورة والأنوثة يتجسد أو
يتحقق في شكل استعمال الجسد أو اتخاذ أوضاع في أشكال من التصرفات والسلوكيات، وفي
أشكال من التقابلات وبشكل خاص طريقة استخدام الفم، الرجل يأكل بملء فمه ويفتحه
بشكل واسع، في حين تأكل المرأة بشكل مخالف بنهاية الفم وكأنها لا تأكل، كما تتجلى
التقابلات في طريقة استقبال الناس:الرجل ينظر مباشرة وجهاً لوجه لمن يستقبله، في
حين لا تستخدم المرأة نفس الحركات، بل تنظر بمواربة بنوع من الخجل والانحناء .إنها
خصائص فيزيقية ترتبط بها صفات أخلاقية متقابلة : الصرامة والاستقامة والصراحة
بالنسبة للرجل ، والاحتشام والرقة والانعزال بالنسبة للمرأة. إن اخطر أشكال العنف هو العنف الرمزي الذي
يقبله الضحايا ويشرعنونه.
(العنف المادي مع كلوزفيتش وميخائيل والزار)
في
مقابل هذا الشكل من العنف، هناك العنف المادي الذي يتجسد في أكثر أشكال السلوك
تدميرا وهي الحرب التي يرى فيها البعض ومن بينهم فان كلوزفيتش بأنها ضرورية من أجل تحقيق الأمن والاستقرار والغلبة
على الخصم وتخويفه، وهكذا عرف كلوزفيتش الحرب بأنها ليست علاقة عدائية بين شخصين،
وإنما هي علاقة عدائية بين دولتين وبالتالي فهي "فعل عنيف موجه نحو إكراه
العدو على الامتثال لإرادتنا" وهكذا يكون العنف المتمثل في أقصى أشكاله
تطرفا وهي الحرب ليس إلا استمرار للسياسية بطرق مختلفة" إنها نزاع عنيف وواسع
إلى حد ما وضروري وتنشب بين الجماعات وداخل الدول وخارجها، وتمثل ثابتا في الحياة
الإنسانية، مما يعني أن الحرب كشكل من أشكال التدمير والعنف ليست هدفا في حد ذاتها وليست ظاهرة مستقلة
بحالها، وإنما هي دائما وسيلة لخدمة أهداف معينة،سياسية أو اقتصادية أو دينية.. وهكذا مع كلوزفيتش وميخائيل والزار أصبح العنف
ينظر إليه باعتباره فعلا أخلاقيا خاصة العنف الذي يكون موجها من طرف دولة تجاه
دولة أخرى، وهكذا بدأنا نسمع مع ميخائيل
والزار وكلوزفيتش مفهوم"الحرب العادلة" !!!.
التركيب
ما
يمكن الخلوص إليه هو أنه إذا كان العنف حسب البعض ميل عدواني متأصل في الطبيعية
الإنسانية فإن هذا العنف لم تستطع البشرية مهما تقدمت في جميع أصناف العلوم
والمعرفة في القضاء عليه، بل فقط أعادت هيكلة ممارسته وغيرت من أشكاله ليصبح عنفا
يمارس بأخطر الأشكال وأكثرها ترسيخا وهكذا بدأت جميع الدول تبدع خطابات وأنظمة
إيديولوجية تعمل من خلالها على ترسيخ وتجذير عنفها ليكون مقبولا عن طريق الإعلام
والتربية وهو ما سماه بورديو بالعنف الرمزي بينما دافع ولازال العديد من منظري
الفلسفة المعاصرة والحديثة عل ضرورة العنف وأهميته باعتباره سلوكا حيويا يعيد
تنظيم المجتمع بل ذهب كلوزفيتش وميخائيل والزار إلى حد الحديث عن العنف في أقصى
أشكاله التي تجسدها الحرب باعتباره شيئا أخلاقيا وعادلا وضروريا، وبدورنا نتساءل:
متى كان العنف أخلاقيا أو ضروريا؟ !،
صحيح أن ضرورته يستمدها دائما من انحرافات وسياقات موضوعية تغذيه وتشجع عليه،لكن
القول بضرورته هو تكريس للتفاوتات وتجذير للهيمنة التي تسعى إليها بعض الدول على
حساب دول أخرى أو بعض الأشخاص على حساب آخرين.إن عدم قضائنا على العنف يجعلنا
دائما في حاجة إلى طرح سؤال عميق يعيد مساءلة كل الفلسفات الأخلاقية التي أ بدعها العصر الحديث والمعاصر والتي
رأت في العقل مخلصا من العنف،وهو ما لم
يتحقق انطلاقا من مسارات تاريخية معينة -النازية والفاشية والديكتاتورية- مليئة
بأحداث دامية وعنيفة تجعلنا مطالبين بفحص الحضور الدائم للعنف عبر التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق