*الزاهيد مصطفى/ أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بالمغرب
يعتقد
جميع الناس أن ما يعرفونه ويرونه هو الحقيقة بالنسبة إليهم وإلى الجماعة التي
ينتمون إليها، لكن العلم في كل مرة يقلب أوهامنا ويكشف لنا أن أغلب ما اعتقدنا
بكونه حقيقي ليس سوى رأي ومعرفة تلقائية وظنية وصور متغيرة، وقد عالج الفيلسوف
اليوناني أفلاطون إشكال الحقيقة في أسطورة سماها بأسطورة الكهف في كتابه الشهير
الجمهورية،
وفي هذه الأسطورة يدعونا أفلاطون لكي نتخيل مجموعة من السجناء
المحبوسين في هذا الكهف والمقيدين من أيديهم وأرجلهم، بحيث لا يستطيعون الفكاك أو
الإلتفات إلى الخلف، وخلفهم توجد كوة يدخل منها نور الشمس وتوجد كل الأشياء
الحقيقية، لكنهم لا يستطيعون رؤيتها لأنهم مقيدين، فإنهم يكتفون بالنظر أمامهم، فيرون
ظلال الأشياء الموجودة خلفهم منعكسة على شكل صور أمامهم وهكذا يألفون مع الوقت
والعادة رؤية تلك الظلال وكأنها حقائق، وهكذا حسب أسطورة الكهف فإن السجناء يرمزون
إلى كل الناس الموجودين في هذا العالم بينما الظلال تشير إلى أشباه الحقائق أو ما
ألفوا هم اعتباره حقيقة، وكان شرط الوصول
إلى الحقيقة حسب أفلاطون هو التخلص من تلك القيود التي تكبلهم في الكهف، هذه
القيود التي لن تكون سوى العادات والتقاليد والمعارف الشائعة التي تعلمناها من
الكهف الذي نعيش فيه، والكهف هنا هو المحيط والعالم الذي تربى فيه الفرد و تطبّع
به، ولا يمكن التخلص من هذه الظنون والمعارف الظنية إلا عن طريق الحكمة والشك الذي
يشتغل به الفيلسوف من أجل الوصول إلى العالم الحقيقي والذي سماه أفلاطون في أسطورته
بعالم المثل، . ونحن نتأمل التصور الأفلاطوني ونشاهد البث الكثيف للصور الإشهارية التي
تغزو وتملئ عالمنا، نعيد تأمل هذا التفكيك والانتقال الإستراتيجي الذي عرفه تصورنا
للعالم من كهف أفلاطون إلى رونيه ديكارت، وصولا إلى عصر الاحتفال بالصوّر
والإستهلاك، في عصر وسم بعصر الصورة.
هناك عبارتان مشهورتان في تاريخ الفلسفة الحديثة
والمعاصرة، تلخص وتكثف لنا كل التحولات الجذرية التي مست عالمنا، فمن الكوجيطو
الحداثي لديكارت" أنا أفكر إذن، أنا موجود" إلى الكوجيطو المابعد حداثي
"أنا أستهلك، أنا موجود"، هناك توصيف دقيق لانتقال جذري من مرحلة تاريخية قامت على تصور للإنسان باعتباره مركزا للكون،
وباعتباره مركز الثقل الذي تستمد منه كل الموضوعات قيمتها، سواء تعلق الأمر بالطبيعة
أو الجمال أو الميتافيزيقا. لكن عالمنا اليوم، لم يعد فيه الإنسان هو الثابت الذي
تستمد منه الأشياء قيمتها، بل أصبحت الأشياء في مركز الصدارة، لذلك نجد "لوك
فيري" يعلن في كتابه "الإنسان المؤله" أن الكوجيطو
المابعد-حداثي لعصر الصورة قائم على
الإستهلاك، والإفراط في الاستهلاك.و في سياق هذا الإنقلاب تحضر الصورة باعتبارها
الوسيط الذي تشتغل عبره كل الخطابات المعاصرة حول الأشياء، فإذا كان الخطاب
الإنساني آشتغل عبر وسيط الكلمة والحامل الورقي منذ أفلاطون، فإن الخطاب حول الأشياء يشتغل عبر وسيط الصورة
البصرية و الكلمة، وفي هذا السياق يمكننا أن نستحضر الخطابات الإشهارية والصورة
الإشهارية باعتبارهما جزء لا يتجزأ من عالمنا اليومي، فكل خطاب إشهاري إلا ويقدم
نفسه باعتبار غايته الأولى: هي الإهتمام بصحتنا وجمالنا ورشاقتنا، و قد إنتبه جان بودريار إلى هذا التوظيف الإستراتيجي والمدروس للنجوم، و خاصة جسد المرأة، حيث يقول انطلاقا من
حديثه عن فلسفة الإغواء و الإغراء:''يتمثل
الإغواء بالنسبة لنا في الشيطان، و قد كان من بين هذه الحيل التي يوظفها تلك
النساء الساحرات الماكرات، الشريرات أو تلك النساء الجميلات القادرات على الإيقاع
و الغواية بالرجال. لقد كان الإغواء دائما مرتبطا بالشر و الإنهماك في الأمور
الدنيوية على حساب الجوانب الروحانية، هكذا كانت النظرة للنساء و مازالت في كثير
من الثقافات والأساطير المؤسسة"، و هو ما يعمل الخطاب الإشهاري على تغذيته من
أجل ضمان السيطرة، و استمرار العين المحدقة التي عبر عنها مشيل فوكو من أجل خلق
أجساد طيعة و استدماجها في صيرورة النظام و في قيمه و اتجاهاته و مواقفه، حتى نسلك
وفق ما يريده القائمون على الصورة الإشهارية لا كما نختار نحن بإرادتنا". و
هذه وظيفة الخطاب الإشهاري، إنه "بوليس جديد للفكر" و للمواقف و الإتجاهات،
و خالق للحاجة و الرغبة والقيمة، و يمكنني أن أتجرأ أكثر، و بتواضع و حذر علمي
شديد لأقول: إن الإشهار جعل العالم مليئا بالآلهة، و لم يعد هناك إله واحد، و هذه
هي إيديولوجية الإشهار والصورة الإشهارية، فقد بلغ الإهتمام بالنجوم والأيقونات
التي يوظفها الخطاب والصورة الإشهارية إلى حد التقديس ويكفي أن ننظر لعارضات الأزياء
ولاعبي كرة القدم...
و حسب السيميولوجي-المهتم بعلم العلامات- سعيد بنكراد "إن الوصلة
الإشهارية لا تبتعد كثيرا في صياغتها لمضامينها عن هذه الصور، فحتى في الحالات
التي تحاول فيها إيهامنا أنها تستند إلى قواعد العقل التي تتحكم في الشراء، فإنها
تفعل ذلك استنادا إلى منطق صوري يخفي الدافع و الغريزة و الإنفعال وراء كل فعل
شراء، إن الأمر يتعلق بعملية تحرير لهذا الفعل من القيود التي تفرضها المراقبة
العقلية و القذف داخل عالم الاستهلاك متسلحا بانفعالات مستوحات من مناطق نفسية
بالغة التنوع. إن الشراء مرتبط في أغلب الحالات بالإنفعالات لا بقرارات عقلية
صاحية، و لو تعلق الأمر بمادة إستهلاكية نفعية''، ورغم أهمية الجانب الإخباري و
البعد الإقتصادي الذي يتضمنه الخطاب الإشهاري فإنه علينا البحث في ما قبل الإخبار
و الحياد المزعوم. للخطاب الإشهاري من أجل تفكيكه و تحليله و الكشف عن خلفياته
الايديولوجية، و كيف يوحد و يوجه و يشكل و يخلق الحاجة و المواقف و السلوكات، وإلا
كيف يمكننا تفسير هذه الارتباط الجماهيري مع فريق مثل "البارصا"
"ريال مدريد"؟ هذه الفرق التي أصبحت مرتبطة بعلامة ''بيبسي'' كسلعة أو
''كوكا كولا''. إن إثارة الرغبات و خلق الحاجة هو بؤرة الرسالة الإشهارية'' و على
هذا الأساس فإن الرغبة هي في الأصل ما يمكن أن يحدد باعتباره منتجا للصورة
الإشهارية، لذلك و جب التمييز بين الرغبة و الحاجة، فالحاجة تستدعي الإشباع، أما
الرغبة فتقود إلى إنتاج حالات الإستيهام. و هذا الترابط بين الحاجات و بين الرغبات المتولدة عنها هو الممر السري
الذي يقود إلى فهم المضمون الحقيقي لإستراتجيات الإشهار والصورة الإشهارية التي
يشتغل عبرها، و هو ما يمكن أن يتحقق
من خلال تحول المنتج إلى قيمة، فأن تشتري''شيئا'' لا يعني تلبية حاجة ضرورية
فحسب، بل يعني العيش من خلال هذا المنتج ضمن وضعية كل اللذين يقتنون منتجا
مماثلا" .
إن الصورة الإشهارية تمتح مشروعيتها انطلاقا من التفكير في المستهلك وذلك بتوفير حاجياته وفرضها عليه، بل الأمر
يصير كذلك عندما يفكر في مستقبله وأفق انتظاره، وعندما يحدد نظرته لمعنى الحياة و الوجود،
فهو قريب منه في جميع أحواله الإجتماعية، ويرافقه في المناسبات التي يحتاج إليه،
فهو الحل والبديل، يجيبه عن تساؤلاته التي لم يطرحها أو التي تتبادر لديه، ويملك
مفاتيح الإشباع، انطلاقا من آليات اشتغاله وفي بنيته، فهو يحاول أن يخترق الوعي
وذلك بإلزام المتلقي وتوجيهه نحو فعل الشراء "حيث يشير فعل الشراء أحيانا إلى
التطهير أو إثبات الذات أو الإنفاق كنوع من الخلاص. إن الأمر يتعلق بالصور الأولية
التي لا يفسرها السلوك الفردي نظرا لعموميتها، فهي مشتركة بين كل أفراد النوع
البشري، وهي صور غامضة، ولا يدركها الفرد بشكل واعي، ويطلق عليها سيغموند فرويد(S.freud)البقايا
المهجورة" أي تلك الأشكال النفسية التي لا يمكن لأي حدث في حياة الفرد
تفسيرها، إنها تبدو وكأنها فطرية وأصلية وهي بذلك تشكل إرثا للذهن البشري، "وليس
غريبا أن يتوقف الدارسون وهم يحاولون تفكيك آليات الإستراتيجية الإشهارية، عند
أبعاد داخل الكائن الإنساني دون الاهتمام بما تقوله الوصلة عن المنتج وخصائصه، فكل
ما تقوله الإرسالية الإشهارية موجه في المقام الأول نحو إرضاء بعض الميول الداخلية
التي قد لا يلتفت إليها المستهلك بشكل واع، فهو يعيشها على شكل صور مبهمة تستوطن لاشعوره
في غفلة منه، وهي التي تحدد ردود أفعاله في كثير من الأحيان، فداخل الإنسان تتعايش
مجموعة من النزاعات التي لا يحققها دائما بشكل صريح"، "فالإشهار والصورة
الإشهارية ترومان أن يكون جذابا ومغريا، إنه يمزج داخل الوصلات بين العاطفي
والعقلي"، إذ تحكمه ميكانيزمات منطقية وإستطيقية حتى يقوم بوظيفة الإقناع
والتأثير، وذلك عن طريق فك مغالق البنية الذهنية للمستهلك.وهكذا يبدوا أن ما كان يراه
السجناء هو الحقيقة وما آعتقده أفلاطون بكونه وهما أراه اليوم بفعل قوة الخطاب
والصورة الإشهارية حقيقة، فانقلب الوهم حقيقة وسارت الحقيقة وهما ! وحينما تغيب الحقيقة تصبح الحرية موضع سؤال؟ هل
الحرية هي الإختيار حينما نذهب للتسوق بين الأبيض والأسود؟ يجيبنا تيدور أدورنو:
"إنها الابتعاد عن الخيارات المحددة سلفا"، وكل شيء في عصر الصورة
الإشهارية حدد سلفا، مما يعني أننا لسنا
أحرار إلا نادرا !.
الإحالات:
1. ميشيل مافيزولي، تأمل العالم، الصورة والأسلوب
في الحياة الإجتماعية، ترجمة فريد الزاهي، الرباط، منشورات المعهد الجامعي، سلسلة
ترجمات،2005.
2. سيغموند فرويد،علم النفس الجماهيري،ترجمة جورج
طرابيشي،دار الطليعة،بيروت،2006
3. سعيد بنكراد،الصورة الإشهارية،الرباط،المركز
الثقافي العربي،الطبعة الأولى.
4. شاكر عبد الحميد،عصر الصورة،الكويت،سلسلة عالم
المعرفة العدد 311 سنة 2005.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق