آخر الأخبار

الجمعة، 3 مارس 2017

في القضية السورية: ملاحظات منهجية



*الزاهيد مصطفى/أستاذ الفلسفة بني ملال المغرب
منشور في جريدة الاتحاد الاشتراكي
تابعنا جميعا الحراك الذي عرفه العالم من بلاد فارس إلى شمال افريقيا(الحراك الذي عرفته أوروبا اسبانيا وول ستريت واليونان نعود إليه لاحقا)، والذي قاده العبيد الجدد حالمين بتحسين شروط استعبادهم، في زمن تاريخي يصدقون فيه أن هناك من داخل هذا العالم الذي تقوده الإمبريالية ويحكمه الرأسمال العالمي إمكانيات للعيش الكريم الذي يتأسس على المبادئ الإنسانية الكبرى التي راكمها الإنسيون عبر تاريخنا البشري الطويل، فقد وقفنا في هذا الحراك على العديد من المفارقات التي عبرت عنها الأنظمة الغربية والعربية في التعامل مع هذا الحراك،
ولم يستثنى من هذا الحراك أيضا مفارقات "النخبة" السياسية والثقافية التي أبانت عن انحياز كبير للقوة على حساب الحق، وللمصالح الذاتية على حساب الإلتزام  تجاه التاريخ والقيم الإنسانية، وفي قلب هذه المعارك كانت القوة تدير الوعي والرأي العام العالمي حول ما يجري بالقوة الناعمة، ففي بلد مستهدف سميت الأحداث بالثورة، وفي بلدان أخرى تم غض الطرف والإكتفاء بالنقل الباهت للمسيرات، وهو ما يبين في العمق أن تحالفات استراتيجية وقوى عالمية تدير الحراك، لكن في قلب كل هذه الحراكات تم التركيز على الشرق الأوسط، وخاصة سوريا التي تحولت ساحتها إلى حرب دولية، ولست هنا بصدد تقديم موقف ذاتي من الحرب السورية حتى لا يطالبني ضحايا التصنيفات (هل أنت مع أو ضد ؟) وهو الخطاب المغلوط الذي يخفي تعميما وتأسيسا خطيرا للطائيفية على مستوى جميع البلدان من بلاد فارس إلى شمال إفريقيا، بل أؤكد أنني هنا بصدد تقديم ملاحظات منهجية في النظر إلى هذه الحرب،  وأعتقد بنظري المتواضع أننا مطالبون  بضرورة التمييز في الحرب السورية اليوم بين منظورين لنتمكن من مقاربتها:
1- المنظور الأخلاقي: الذي يجعل نظرتنا للحرب محكومة بعواطفنا، العواطف هنا ليست الرغبات الذاتية العمياء بالمعنى الشوبنهاوري التي تخترق النسق وتشقه، بل الإندفاعات التي تتشكل في العمق من شدة الصبيب الإعلامي والقصف الإيديولوجي الذي نتعرض إليه من خلال البث الكثيف للصور، ومن خلال التدخل في الصور وفي صناعتها، ننظر إلى الوضع ونحكم عليه بناءا على انفعالات وجدانية مبنية على الاستنكار والرفض للبشاعة، وكذلك من خلال الأجراء الذين تقدمهم كبريات الوكالات الإعلامية بكونهم خبراء في الإستراتيجيات، والأمن القومي، الحرب والمستقبل، وغيرها من الألقاب التي تمنح لهم كسلطة رمزية تشرعن خطاب تلك الوكالات، وتمارس نوعا من العنف الرمزي على المشاهدين ليقبلوا بذلك الخطاب دون تشكيك أو تمحيص مادام قائله يملك الخبرة والحضور الإعلامي(خاصة الخبرة الاكاديمية والتقنية)، هذا المنظور سعى إلى جعل الرأي العام ينظر للوضع السوري من منطلق حقوقي أخلاقي، مبرر بخطاب ديني يدين النظام السوري باعتباره نظاما ديكتاتوريا يقوم بقتل شعبه الذي خرج مطالبا بالعدالة والكرامة والحرية ويستهدف الإسلام لصالح الشيعة، ويمنعهم من الخروج للاحتجاج كما خرجت كل شعوب المنطقة، دون أن يتجاوز وعي الرأي العام ذلك لإدانة المحركين للصراع الحقيقيين ولإخفائهم وإخفاء تورطهم بعناية فائقة تلعب اللغة الموظفة هنا  دورا سياسيا واستراتيجيا ويلعب القانون والصورة أداة تبرير خطيرة على الباحثين مستقبلا تفكيك أدوارهم.
2- المنظور السياسي/الإستراتيجي (التفكير المركب): الذي يرى ما خلف القصف الإعلامي لدول الخليج والغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وهو يستحضر المصالح الإستراتيجية للقوى الإقليمية في المنطقة، ويستحضر كذلك ثقل التاريخ، والفاعلين الرئيسيين أي القوى الأساسية التي تقاتل في سوريا وخاصة  السورين والإيرانيين والصينيين وحزب الله، من هذا المنظور يكون الصراع في سوريا هو صراع بين مشروعين، مشروع سايكس بيكو الثاني لإتمام ما تمت بدايته سنة 1916، ومشروع مضاد  لإنهاء ما تمت بدايته سنة 1916، ونظرا لأن المنخرطين في المشروع لم يقدّروا حجم ما سيلاقونه في سوريا نظرا لجنون العظمة الذي صار الغرب الإمبيريالي اليوم يحركه، فإنهم حاولوا إعادة تجربة أفغانستان والتي وظفت فيها القاعدة لإنهاك الاتحاد السوفياتي من أجل  تحجيم دور روسياوالصين في المنطقة، والآن فإن التاريخ يعيد نفسه لكن بالنسبة للروس ومحور الممانعة كما يسمي نفسه، فإن التاريخ يعيد نفسه من منظور المقصيين والمستهدفين في الشرق الأوسط، من منظور الروس والصينيين وسوريا وحزب الله والعراقيين ممثلين في الحشد الشعبي المنخرط في الحرب والحاضر في الساحة السورية ونخبة الجيش المصري.
كان الهدف في البداية هو تمزيق سوريا لإيجاد دويلات صغيرة تسهل عملية تمرير أنبوب الغاز القطري إلى أروبا ليصب في بلغاريا، وبالتالي ضرب الإقتصاد الروسي في الصميم،-مسألة لم يتطرق إليها الخبراء في قنواتنا المغربية وهو نفس الأنبوب بنظري الذي  سيتم تمريره من نجيريا إلى المغرب  بعدما تم الفشل في تمريره من سوريا، وهو ما يضع المغرب  اليوم في قلب مواجهة مع الروس، لأننا بشكل أو بآخر قمنا بطعنهم في الخلف وأعتقد أن الزيارة الأخيرة للوفد الروسي الرفيع المستوى للمغرب يوم 15/12/2016 قد تكون إحدى أسبابها الرئيسية هذه النقطة، وهو خطأ فادح له ايجابياته وسلبياته بالنسبة للمغرب، و قد تكون تبعاته السلبية أكبر بالنسبة للمغرب إن انتصر حلفاء سوريا في الشرق الأوسط وسيضع المغرب بين نارين على المستوى البعيد، خاصة في مجلس الأمن الذي تملك فيه روسيا الفيتو والصين، ولازال مشكل الصحراء في دهاليز هذه المنظمة العالمية التي صارت أداة لتطويع الشعوب وتبرير تقسيمها وابتزازها أحيانا-، وكذلك إخراج الروس من عمقهم الإستراتيجي في سوريا وفي الخليج العربي، لكن الروس أدركوا الغايات والأهداف الكبرى من المخطط لذلك حضروا بكل ثقلهم إلى سوريا وفضلوا مواجهة الإرهاب في سوريا على أن يواجهوه على أسوار موسكو، ولم يكن الغريب بل من السذاجة أن نعتبر أن ما يقع في سوريا هو حراك شعبي خالص، صحيح أن السوريين خرجوا كباقي الشعوب لتحسين شروط عيشهم وتجديد تعاقداتهم السياسية والإجتماعية مع السلطة السورية في البلاد بما يضمن إعادة توزيع عادل للخيرات المادية والرمزية في سوريا،  لكن الغريب أن يتمكن  الحراك الشعبي في تلك الظروف الإقليمية بسهولة من الحصول على السلاح والمال والعتاد واللوجستيك والمعلومات الإستخباراتية، فقد ظهر منذ العام الأول للحراك في سوريا أنه من يقود الحراك ليست جبهات شعبية بل كوادر أكثر تنظيما وتدريبا، وكذلك حجم المواكبة التي خصّها الإعلام الرأسمالي والخليجي عالميا لذلك، وكان الرهان في القصف الإعلامي منذ البداية منصبا على شق الجيش السوري وتفكيكه من أجل تسهيل عملية القضاء على النظام السوري، ثم السماح للتنظيمات الإرهابية بجميع تلاوينها سواء لواء الحق، أو النصرة، أو داعش، أو باقي الفصائل، وحتى صنيعة فرنسا ومن سمي بالجيش الحر، أو المعارضة المسلحة بالتمدد في الداخل السوري، ثم العمل فيما بعد على تعميق الشروخات بينها لتسهيل تمزيق الوحدة السورية، وخاصة أنه ظهر فيما بعض الانقسام بين النصرة وداعش والقاعدة  مباشرة بعد أن عبر أيمن الظواهري عن امتعاضه من تسرع البغدادي في التمدد في الشام والعراق وتركيزه على خلق دولة للإرهابيين /المسلمين بتعبيره، وقد قالها في خطابه في الجامع الكبير في الموصل في خطبته الشهيرة بأن غايته إيجاد دولة للإرهابيين، لكن عقيدة الجيش السوري والدعم الإيراني والروسي وحزب الله والصين وهو الحلف الذي أبان عن قوته وانسجامه ضد القوة  الامريكية وعملائها في الخليج الممولين والمنفذين للمشروع كان صلبا.
لقد كانت الغاية منذ البداية هو تمزيق سوريا من أجل خدمة إسرائيل وأمريكا ومحاصرة الروس ومراقبة الصين وتحجيم تمددهم، وكذلك إيجاد تسويغ دولي للوجود اللقيط لدولة إسرائيل، فالصينيين والروس لم يأتوا إلى سوريا حبا في سواد عيون السوريين بل جاؤوا من أجل مصالحهم، لكن هناك محرك أخلاقي وهو التحالفات الاستراتيجية بينهم وبين السوريين التي كانوا مطالبين بالوفاء بها.
 اليوم لايجب أن تخدعنا الآلة الإعلامية الجهنمية التي تصور لنا أن ما يقوم به بشار جرائم ضد الإنسانية، لأن هذا المنطق مغالط لو كانت الإنسانية إحدى اهتمامات المنتظم الدولي، الراغب في تمزيق الشرق من جديد لكانت الأوضاع في فلسطين والعراق والساحل الإفريقي وفي دول الخليج وبورما تجعلهم ينددون بالجرائم المرتكبة، وبحملات من الإعدامات بطرق بشعة على طريقة داعش في الخليج؟ لكن ضمير المنتظم الدولي وإعلامه يكون نائما هنا، أما في سوريا فكل الإعلام يوجه نحو تجريم النظام السوري وتبرير الإرهاب باعتباره قوى معارضة تتعرض للمنع من حقها في المشاركة في السلطة، هنا وفقط يصير المنتظم الدولي صاحب ضمير وحارس للإنسانية ومناصرا لها ولحقوق الإنسان !!!
وأنا هنا لا  أبرئ النظام من أخطاء اعترف الرئيس بشار الأسد في مقابلات عديدة بوجودها وبوجود  تجاوزات كثيرة لكن لكل حرب أخطائها  وأضرارها الجانبية، فالإيرانين لديهم طموحاتهم وكذلك الروس في ظل تكاسل إمارات الخليج التي كانت لديها كل القدرة على توجيه ثروتها لبناء شروط التقدم العلمي والتكنولوجي والقوة، لكن شروط النشأة رهنتها للحماة الأمريكيين والبريطانيين مما جعلها عاجزة اليوم على الصمود في غيابهم ومرتهنة لمشاريعهم.
أخلص إلى أن ما يقع اليوم ضروري في سوريا، فهو حرب في العمق، وشرخ داخل الرأسمالية، إن كل ما يقع ضروري لوعينا لكي نتحرر من جميع الأوهام حول إمكانية إصلاح الرأسمالية من الداخل، إن كل ما وقع من قتل وتدمير وجرائم هو دليل صارخ على أن الرأسمالية شر لايمكن نهائيا أن تؤسس قيما من داخله، وهو ذليل كذلك على أن إفلاس كل الأديان اليوم، فهي عاجزة على أن ترسم الخلاص للبشرية مادام كل دين أو مذهب ديني  يريد احتكار الحديث باسم الله، وتأسيس مدينة له بمعاييره المذهبية،  إن كل القيم من داخل النظام الرأسمالي المعولم اليوم  لايمكنها أن تكون متاحة للجميع ومشتركة بين الجميع، بل متاحة لفئات معينة على حساب فئات عديدة، إن التناقض الأساسي والتاريخي بين من يملكون ومن لايملكون، هو تناقض لازال يحكم بنية هذا النظام، والشعب السوري اليوم شئنا أو أبينا يستحسن من الناحية الإستراتيجية والسياسية  أن ينتصر مع حلفائه، وقد بدأ ذلك في حلب.
 لقد كان الفيلسوف جان بودريار متشائما في أطروحته حول موت الواقع من مسألة أساسية وهي القضاء على مبدأ التناقض في العالم بفعل المطابقة التي تخلقها وسائل الإعلام والصور اليوم بين الدال والمدلول، أين بين الأسماء وما تشير إليه من معان، فهي تلغي المسافات بينها وتوحدها، لكن المتابع للوضع السوري سيكتشف أن هذه التناقضات بدأت تعود للعالم من جديد، وصار بإمكاننا اليوم أن نتحدث عن العالم وعن الأحداث فيه من خلال منظورين، منظور القوى الجديدة في الشرق الأوسط، ومنظور التحالف الأمريكي /الخليجي/الغربي المتهاوي.
آخر شيء يمكننا أن نتحدث فيه اليوم في الحرب السورية، هو مسألة الحقوق والديمقراطية والإنسان ، لأن الوضع اليوم في سوريا استثنائي، ولم يعد من الممكن أن تحظى هذه الأمور بالأولوية لأن المطلب الآن هو السيادة وهي مكلفة في الأرواح والعتاد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق