أعد
التقرير: الزاهيد مصطفى
بدعوة من فرع الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة ببني ملال
ألقى الإبستمولوجي المغربي الأستاذ محمد أبطوي درسا افتتاحيا بمناسبة اليوم
العالمي للفلسفة تحت عنوان "الفلسفة والعلم من زاوية التاريخ الابستمولوجي
للعلوم"، حضرته فعاليات مدنية ونقابية وسياسية وجمعوية ومدرسات ومدرسي الفلسفة بجهة بني ملال خنيفرة
والعديد من تلاميذ المؤسسات بالمدينة.
ابتدأ هذا اللقاء بكلمة للكاتب العام لفرع
الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة فرع بني ملال الأستاذ حسن الحريري، الذي أكد على أن هذا النشاط
يندرج في سياق ما سماه "الاحتفاء والاعتراف
ومقاومة النكران". أولا الإحتفاء باليوم العالمي للفلسفة باعتباره
مناسبة لإعادة النظر في وظيفتها النقدية ومساءلة علاقتها براهننا اليومي والعربي
والعالمي المأزوم والمعولم والمنمط، وكذلك التفكير في حضورها المؤسساتي داخل
نظامنا التعليمي تفكيرا وتأليفا وتدريسا. ثانيا الاعتراف بالذين يشتغلون
فيها أو في علاقة وطيدة بها وبعطاءاتهم العلمية التي تجاوزت حدود المحلي إلى
العربي والعالمي وخاصة البروفسور محمد أبطوي، الذي تعتبر إسهاماته في مجال التأريخ
للعلوم العربية والغربية مساهمة نوعية بصلابتها وجدّتها النظرية والأكاديمة. وما
الإعتراف الذي حققه اشتغاله على تحقيق وترجمة
متن الإسفيزاري إلا دليلا على ذلك. فالمجتمع لم يعد فقط في حاجة الى الأيقونات
الإعلامية، بل هو في حاجة إلى نماذج وقدوات في الحقل المعرفي والعلمي، من أجل
تجذير مساهماتهم وتقديمها للناشئة عبر
وسائط بيداغوجية وديداكتيكية تجعلهم يستعيدون الثقة في أهمية الثقافة والعلم
باعتبارهما أيضا مصادر للحظوة الإجتماعية، وليس فقط الأنماط التعبيرية التافهة
واليومية والمبتذلة. ولم يفت الأستاذ حسن الحريري أن يتقدم باسم الفرع
المحلي وباسم المكتب الوطني للجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة بالشكر الجزيل للبروفيسور محمد أبطوي على حضوره وعلى
التزامه العلمي بالتأصيل لمبحث جديد في ساحتنا الأكاديمية وهو تاريخ العلوم،
باعتباره من الأسس النوعية لكل بناء فلسفي يمكنه أن يساهم في التنمية الإجتماعية
الحقيقية.
أما كلمة الاكاديمية فقد ألقاها السيد المدير الاقليمي ببني
ملال، الذي عبر عن بالغ شكره واعتزازه بالنشاط الثقافي الذي نظمه فرع الجمعية، وكذلك للحضور وخاصة التلميذات
والتلاميذ الذي شاركوا في هذا اللقاء. وشدد السيد المدير الاقليمي عن فخره بهذا الإسم الوطني الممثل في الدكتور
محمد أبطوي ولمساهماته العلمية. كما نوه السيد المدير الإقليمي بالموضوع
وبصلته الوطيدة بهموم المجتمع وبغايات المدرسة الحقيقية، وهي أن يكون العلم والفلسفة
في خدمة المجتمع بل يجب أن تكون كل تنمية وكل بناء تعليمي قائم عليهما، وإلا كان
مفتقدا للرؤية والهدف والغايات والأسس.
في نفس السياق انطلق الدكتور محمد أبطوي من شكره للحضور ومن تأكيده على أهمية هذه
اللقاءات الفكرية في تعميق وتعميم النقاش حول القضايا العمومية والتأسيس لها، خاصة
على المستوى العلمي والثقافي والفلسفي. وفي بداية عرضه بين أن كل اهتمام بالعلم هو
اهتمام بقضايا المجتمع، لكنه اهتمام من نوع خاص تهيمن عليه غائية التأسيس للقيم
المجتمعية وللتنمية الاجتماعية على أسس صلبة. فالعلم اليوم لم يعد ترفا بل ضرورة
وكل القيم العلمية صارت مطلوبة اليوم من أجل تنمية الرأسمال البشري. فالعلم من هذه
الزاوية ليس منفصلا عن السياسة لكنه كذلك ليس خاضعا لها بالمعنى المبتذل لكلمة
سياسة، والذي يغلّب طابع الممارسة والإنخراط الأعمى أحيانا، بل العلم لديه
إشكالاته وقضاياه ومجاله الخاص. كما تعرض الدكتور محمد أبطوي بالنقد لكل التصورات النقدية
المعاصرة التي تنتقد العلم والقيم العلمية بدافع
التوظيفات الإيديولوجية التي خضعت لها التقنية على المستوى العالمي، وعليه نبّه
محمد أبطوي إلى ضرورة إعمال منهجية للتميز بين :
1-
العلم والمعرفة العلمية باعتبارهما ضرورة
تاريخية لكل تنمية اجتماعية ولكل تقدم مجتمعي.
2-
التقنية باعتبارها التوظيف البشري للمعارف النظرية
المنتجة داخل حقل العلوم، وقد تعرف في توظيفها انحرافات تمس بالقيم البشرية.
إذن، فلا يوجد مبرر في وضعنا الحضاري والتاريخي اليوم
المتخلف أن نرفض العلم بدعوى الإنحرافات والتوظيفات التي عرفتها التقنية العلمية،
لأننا في الحاضر والمستقبل لايمكننا أن ننخرط في العالمية والكونية وأن نكون
منتجين في غياب القدرة على التأسيس العلمي للخيارات المجتمعية التي ننتجها. فالعلاقة
بين الفلسفة والعلم من زاوية التاريخ الإبستمولوجي تنحو حسب الأستاذ محمد أبطوي
الدفاع عن أطروحة من منظور المبحث الذي يؤصل له اليوم وهو تاريخ العلوم، بحيث يكون
الفيلسوف والعالم من خلال مباحثهما الفلسفية والعلمية متجاوران. والمجاورة هنا ليس
المعنى المكاني بل الفكري. فالأطروحات الفلسفية حسب الدكتور محمد أبطوي منذ
الإغريق مبنية على أسس علمية، وهذه المصادرة العلمية كافية لندافع على المستوى الأكاديمي
على ضرورة تدريس تاريخ العلوم كدزء من الدرس الفلسفي. فالنظرية الفلسفية تحمل في أسسها
المبادئ العلمية، وكل قراءة لتاريخ الفلسفة دون استحضار الأساس العلمي يجعلنا
أحيانا ننتج قراءات مشوهة للمتون الفلسفية. وذكّر الأستاذ محمد أبطوي في
مداخلته أنه لا يحمل أي دعوة بالمعنى الفقهي أو السياسي، فهو لا يعتبر نفسه مصلحا
اجتماعيا ولا مفكرا ولا مثقفا، بل هو باحث محترف يعمل في ميدان محدد. إنه بلغة
اليونان الأوائل يسعى إلى فهم الكثرة
والتعدد من داخل الوحدة، وحدة تاريخ العلوم ويتقاسم بالمعنى اليوناني للتقاسم
والمشاركة ما توصل إليه مع جمهور القراء والمهتمين
والباحثين ومن يحملون همّ بناء المجتمع والرقي به على جميع المستويات. وعليه قسم
الدكتور محمد أبطوي عرضه من الناحية المنهجية إلى:
1-
مسألة الفلسفة والعلم:
تناول في هذه النقطة مسألة بالغة الأهمية ترتبط بشكل
وطيد بالثقافة العربية والمغربية المعاصرة. فكل ما أنتج عندنا حسب الدكتور محمد
أبطوي يوجد فيه كل شيء باستثناء المعرفة العلمية. توجد كتابات لم ينكر الدكتور
محمد ابطوي أهميتها لكنها تعاني من غياب التأسيس الأكاديمي الصلب، فهي دائما تنطلق
من رؤى تاريخية حول العلم ولا تنتج المعرفة العلمية من داخل الممارسة العلمية. فقد طرِحت مسألة العلاقة بين
الفلسفة والعلم في سياقات متعددة وثار حولها نقاش مستفيض في الأدبيات التاريخية
والإبيستيمولوجية. لكن الدكتور محمد أبطوي تناول هذه الأبعاد المختلفة من خلال
العلاقة بين الفلسفة والعلم، وذلك من زاوية تاريخ العلوم عامة، وباستحضار التاريخ الإبيستيمولوجي للعلوم بصفة خاصة. ويقصد الدكتور محمد أبطوي
بالتاريخ الإبيستيمولوجي للعلوم المبادرة المنهجية والنظرية المؤدية إلى ممارسة
تاريخ العلوم على ضوء مقدمات إبيستيمولوجية
تتأسس على رؤية فلسفية للمعرفة العلمية وطبيعتها وعلاقاتها بالأنماط المعرفية
الأخرى.
كما لاحظ المحاضر أن الإنتاج الأكاديمي بالمغرب منذ عدة عقود عرف شغَفا معروفا بفلسفة العلوم. وفي نظر
الدكتور محمد أبطوي كان الأجدر أن يتم الإنطلاق من تاريخ العلوم.
فلو تمرّس بعض كبار مفكرينا بتاريخ العلوم ونتائجه كما هي متداولة في الوسط
الأكاديمي الدولي، لما كُتِب في أدبياتنا الفكرية ما كُتِب حول معارف الماضي
الثقافي الذي ننتمي إليه، ولما أقصي من التراث العربي المكوِّن العلمي إقصاءً
تاماً، مع ما استتبع ذلك من نتائج ذات وقع مهول على أطروحات وخلاصات يتداولها
بيننا المشتغلون بالفكر النظري والتاريخ الثقافي، دون الإنتباه إلى هشاشة المنطلقات
الأكاديمية التي قامت عليها تلك الأطروحات والخلاصات.
في هذا المضمار،
دعا الأستاذ محمد أبطوي إلى العودة إلى تاريخ العلوم، أو بالأحرى الإنطلاق
منه لمصالحة خطابنا النقدي مع العلم، باستحضار المعرفة العلمية في ثقافتنا المعاصرة في بعدها التاريخي. فقد يسعفنا ذلك في بناء خطاب فكري متماسك يتوفر على شروط المعاصرة. فنحن حسب الدكتور محمد أبطوي إلى حدود اليوم لم نستوعب الحداثة كنظام فكري وسياسي تأسس على مقدمات
علمية وترتبت عنه نتائج كبرى في الاجتماع الإنساني.
من هذه الزاوية، فالدعوة إلى تكثيف معرفتنا بتاريخ العلوم تجد راهنيتها الملحّة من ضرورة تجديد خطابنا الفكري ورفده
مواضيع جديدة ورؤى أصيلة من شأنها أن تساهم في تمتينه والرفع من صلابته
الأكاديمية. وتاريخ العلوم كمبحث نقدي مستقل غايته أن يدرس الخطاب العلمي في تاريخيّته
لإبراز البعد التاريخي للمعرفة العلمية. وهو مبحث نقدي مجاور لفلسفة العلوم
ولسوسيولوجيا العلوم، ويكتسب حضورا وازنا في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي على
الصعيد العالمي. وتكمن أهمية تاريخ العلوم في الدراسات الكلاسيكية التي
تدرس ماضي المعرفة المعرفة العلمية ومآلات مستقبلها، ويتخصص في تحليل العوامل التاريخية في نشأة وتطور المفاهيم والنظريات
العلمية. فبفعل قربه من العلوم الدقيقة، يتوفر تاريخ العلوم حسب الدكتور محمد أبطوي على منهجية شديدة الدقة
تجمع بين المعالجة التاريخية والتحليل النظري والمفاهيمي والتأويل الفلسفي. كما
يمثل رافعة أساسية لنشر الثقافة العلمية في التربية والثقافة والإعلام. ويوجد
جمهوره الحقيقي في كليات العلوم حيث تُدرّس العلوم الدقيقة دون تغطية تاريخية
وفلسفية. وفي هذا السياق، وجّه الدكتور محمد أبطوي نقدا لاذعا لهذا الفصل في
نظامنا التعليمي بين المعرفة العلمية والمعرفة الإنسانية التي نسميها أدبية، ونبّه
إلى خطورة غياب تاريخ العلوم عن التدريس العلمي، مما ينتج لنا طلبة ينظرون إلى المعرفة العلمية وكأنها ولدت في صورتها النهائية
التي يتلقونها بها في قاعات الدراسة. ولاحظ أن تاريخ العلوم يدرّس عندنا في المغرب
فقط في برنامج شعبة الفلسفة، وهذا تقليد فرنسي متجاوز ينبغي التفكير جديا في
تعديله لإغناء مناهجنا الجامعية بـمبحث أكاديمي نوعي يمكنه أن يساهم في وضع الأسس
الصلبة للتنمية الحقيقية في المستقبل.
2-
الفلسفة والعلم من زاوية التاريخ الإبستمولوجي
للعلوم
وفي النصف الثاني من المحاضرة، أبرز محمد أبطوي
تاريخية العلاقة بين الفلسفة والعلم من زاوية التاريخ الإبستمولوجي للعلوم. فعلاقة
الفلسفة بالعلم كانت وستبقى دوما علاقة وطيدة، غير أنها علاقة تتجدد باستمرار. ومن
بين مظاهر هذا التجديد في العقود الأخيرة أن أحد برامج فلسفة وتاريخ العلوم الأكثر
نجاحا في الساحة الأكاديمية العالمية يتمثل بالضبط في برنامج التاريخ
الإبيتستيمولوجي للمعرفة العلمية. والتاريخ الإبيستيمولوجي للعلوم غايته هو السعي
إلى ممارسة التأريخ للمعرفة العلمية انطلاقا من مواقف وأطروحات فلسفية توجه البحث
وتنير طريقه. وللحديث عن العلاقة بين فلسفة العلوم وتاريخ العلوم، أبرز موقف فيلسوف
العلوم الفرنسي باشلار وذلك من خلال قولته: ”على مؤرخ
العلوم أن يعتبر الأفكار كوقائع. [أما] الإبيستيمولوجي، فعليه أن يأخذ الوقائع كأفكار، وذلك بإدراجها ضمن منظومة فكرية." فمؤرخ العلوم
يأخذ المعارف العلمية كوقائع ليرصد تاريخها ونموها، بينما يتحدد دور فيلسوف العلوم
في أن يؤسس نظريات ومفاهيم حول تلك الوقائع العلمية. وتاريخ الفلسفة حافل حسب الدكتور محمد أبطوي بأنساق فلسفية
تعبر عن هذا الإرتباط الوطيد بين العالم والفيلسوف.
فالفلسفة الأرسطية مثلا مثلا لا يمكن فهمها واستيعابها بالفعل إلا بوضع اليد على
عمودها الفقري، الذي تمثله الفلسفة الطبيعية والتي كانت هي النظرية الفيزيائية
للعصر القديم والوسيط . كما أن نظرية أفلاطون الفلسفية تنبني على فلسفة رياضيات
تلعب دورا حاسما في بنيتها. وهو ما نجده لدى ديكارت وكانط أيضا، وهما الفيلسوفان
الحديثان اللذان فكرا فلسفيا ومارسا العلم بشغف وأقبلا عليه بهمة لا يدركها مؤرخي
الفلسفة عندنا وهم يقفون عند عتبة أعمالهما الفلسفية دون التغلغل في محتواها
العلمي. فكيف نهتم بكل شيء لدى كانط ونتجاهل نظريته في المعرفة، وهي التي تتبنين
وتتشيّد حولها باقي مناحي فلسفته من ميتافيزيقا وأخلاقي واجتماع؟ وفي هذا الإطار، كلما كان التأسيس الفلسفي أكاديميا
صلبا من الناحية العلمية كلما كانت الفلسفة
أكثر تأثيرا. ولم يفت الدكتور أبطوي الإشارة إلى أن غالبية المثقفين عندنا يهملون الثقافة
العلمية ولايهتمون بها إلا لماما، ويعتبرون أنهم لا يحتاجون إليها، ولا يجدون في
ذلك ابتعادا عن ثقافة العصر كما تتداولها الأمم والشعوب من حولنا. وبيّن أن حياتنا
الثقافية، تفتقر رغم حيويتها، إلى إحدى
مكونات المعاصَرة الحقّة، والمتمثلة في الاهتمام بالعلم في أبعاده الفكرية
والفلسفية والتاريخية. فالعلم والتكنولوجيا رافدان أساسيان من روافد التنمية،
ويمثل نشر الثقافة العلمية بمختلف أشكالها في مجتمعنا شرطا رئيسيا من شروط استنبات البحث العلمي في
بيئة قاحلة تغلب على اهتماماتها الثقافية ضحالة بيّنة جليّة. وهذا الوضع لم يكن
مستغربا للدكتور محمد أبطوي فهو وضع ثقافي عاشته أوروبا وسببه هو أحيانا سوء الفهم من طرف العلماء تجاه الفلاسفة
أو من الفلاسفة تجاه العلماء وتغلب عليه النظرية النقدية في غياب الوعي والتمييز
بين المعرفة العلمية أحيانا والتطبيقات التي تخضع لها هذه المعارف.
3-
نموذج إجرائي لتطبيق
التاريخ الابستمولوجي العلوم
في السياق العربي بين الدكتور محمد أبطوي من خلال تجربته
في التأريخ للعلوم العربية أنه ساهم من خلال المقدمات التي عرضناها سابقا في
التأسيس لأطروحة حول الميكانيكا العربية تتجلى في "علم الاثقال
والحيل"، وذلك من خلال نصوص المظفر الإسفزاري، وهو عالم من أصل إيراني
عاش في نهاية القرن 11م وبداية القرن 12م. وبيّن الأستاذ محمد أبطوي أن هذا العمل
ليس حديث العهد بل بدأه في معهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم ببرلين في إطار مشروع للبحث يتركز حول استكشاف
المتن العلمي للميكانيكا التي كتبت نصوصها بالعربية في المرحلة الإسلامية
الكلاسيكية. وتمثّل المساهمة العربية في هذا المضمار في فرعي الميكانيكا النظرية
والتطبيقية، وهما علما الأثقال والحيل، حسب الدكتور محمد أبطوي انعطافا في تاريخ الميكانيكا.
فالميكانيكا العربية من خلال الأطروحة التي دافع عنه الدكتور محمد أبطوي قطعت مع
الميكانيكا الإغريقية وذلك بتأسيسها لعلم الأثقال والحيل. وانتبه الفارابي إلى هذا
التمييز حين فصل في تصنيفه للعلوم بين علم الأثقال هو الجانب النظري في
الميكانيكا، وعلم الحيل الذي هو الجانب التطبيقي أو العملي في هذه الميكانيكا. كما
يقول الفارابي في "إجصاء العلوم" يشتمل علم الأثقال من أمور الأثقال على
شيئين: "إما على النظر في الاثقال من حيث تُـقَـدِّر أو يُـقَـدَّر بها، وهو
الفحص عن أمور القول في الموازين، وإما على النظر في الاثقال التي تُحَرِّك أو
يُحَرَّك بها، وهو الفحص عن أصول الآلات التي تُرفع بها الأشياء الثقيلة وتُنقل
عليها من مكان الى مكان."
تكمن قيمة الاهتمام بالتحقيق الهادف إلى التأريخ للعلم العربي حسب
الباحث والدكتور محمد أبطوي إلى معرفة مدى مساهمة
"العلم العربي الإسلامي"، في النهضة الأروبية وكذلك الوقوف على
خصوصيات ومميزات هذا العلم وكذلك بشروط إنتاجه وتداوله.
وقد عرف اللقاء نقاشا
مستفيضا ساهم فيه الحضور بكثافة. وتجاوب
المُحاضر منهجيا ومعرفيا ورد على مجموعة من التصورات الساذجة في فضاءنا العربي ومن
بينها أحيانا الاستغراق في "نظرية التراث" في بعدها الإيديولوجي
والتاريخي مهملين التأسيس العلمي من قلب هذا التراث، مذكرا الباحثين على أنه في
مجال المعرفة الأكاديمية يجب اليوم أن تكون قراءاتنا الفلسفية والعلمية دقيقة. فنحن
لانقرأ من أجل الترف أو اتباع الموضة، بل يجب أن تكون غاية القراءة هو الإجابة عن
إشكالات عصرنا، وهذا هو المعنى الحقيقي لانفتاح الجامعة على محيطها او المدرسة
عموما. وقد كان الدكتور مفاجئا للجميع حينما أكد على أنه في الفلسفة مثلا نحن لسنا
بحاجة لما كتب بعد كانط. وليوضح هذه الدعوة بين أن هذا القول لايقصد به التخلي عن
النظريات الفلسفية الأخرى، بل يخص بالذكر تلك التي تحمل يافطة "ما بعد"،
وبالأخص ما يدعى بفلسفة ما بعد الحداثة. ففي زمننا الموضوعي والتاريخي، نحن في
حاجة إلى الفلسفة الكلاسيكية التي ترسي دعائم العقلانية وترسخ مبدأ السببية في
الأذهان والنفوس، وأن نحقق تخمة في العقل والحداثة أولا لكي نقفز إلى مابعدهما. ونختم بالقول أن
المحاضر أكد حاجتنا للفلسفة والعلم معا، وهما رديفان لم تنقطع بينهما أواصر الصلة
والارتباط وما الفصل بينهما عندنا حيث لا يجشّم المشتغل بالفلسفة عندنا نفسه عناء
الانكباب على المعارف العلمية وكأنه يتعامى عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين
المبحثين سواء في الماضي أو في الحاضر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق