ذ.الزاهيد مصطفى
يعتبر توماس جفرسونThomas
Jefferson (1826-1743) أول رجل حديث صاغ
مبادئ الديمقراطية في عبارات ذات صبغة إنسانية واعتبرها حقائق واضحة بذاتها وضوحا
يجعلها في غير حاجة إلى دليل أو برهان، فجميع الناس خلقوا متساوين،
وقد وهبهم
الخالق حقوقا ذاتية كامنة فيهم. ولا يجوز التنازل عنها بأي حال من الأحوال. ومن
هذه الحقوق، حق الحياة، وحق الحرية، وحق السعي وراء السعادة. وهو يرى أن كل شيء
يمكن أن يتغير إلا حقوق الإنسان التي لا يجوز المساس بها، لأنها مقدسة، فهي جزء من
جوهره الذي وضعه فيه الخالق، ولا يحق لأحد أن ينتزعها منه، لأنه بذلك يهدم
القانون، ويدمر ما أبدع الخلاّق العظيم. وقد تكون هذه الحقوق في بدايتها (مبادئ
أخلاقية) لكن لا يجوز استخدامها على هذا النحو الذاتي، فلا يكفي أن نقول أن
الإنسان حر ونقف عند هذا الحد، وأن نستنتج أن له الحق في أن يفعل ما يشاء، فتلك هي
الفوضى بعينها. أو من حقه أن يحيا كيفما اتفق...الخ بل لابد من تقنين هذه الحقوق،
أعني وضعها في صورة قوانين محددة، فالحرية هي ما تجيزه القوانين كما قال مونتسكيو
بحق عندما توضع الحقوق في قوانين تصبح موضوعية وتنتفي منها صفة الذاتية فلا يستطيع
أحد أن يفسرها على هواه. ومعنى ذلك أنها لابد أن تلتحم في نسيج اجتماعي عام ينظم
سلوك الجماعة، وعلى هذا الأساس نلاحظ أن الحق إن كان معطى طبيعي يتجسد في كونه
مثال أخلاقي فإنه لا يصبح ذا قوة إلزامية إلا حينما يتم تقنينه والتواضع عليه
بكونه حقا لكي تكون له قوة إكراهية، وعلى هذا الأساس نتساءل :هل الحق قيمة
متجذرة في طبيعة الإنسان الأصلية؟ أم هو قيمة ثقافية وضعية؟ هل وجد الحق منذ وجد
الإنسان الطبيعي؟ أم هو نتيجة اتفاق إرادي أبدعه الإنسان المدني؟ومن أين يستمد
الحق قوته الإلزامية هل من القانون أم من قيمته الأخلاقية؟بعبارة أخرى هل يتأسس
الحق على ما هو طبيعي أم على ما هو وضعي؟.
مستوى التحليل/ توماس هوبز حق الطبيعة وقانون
الطبيعة
حينما نتحدث عن الحق الطبيعي، فإننا نتحدث عن
مجموع الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته كإنسان. وقد كان رجوع فلاسفة الحق الطبيعي، كهوبز واسبينوزا
وروسو، إلى حالة الطبيعة بهدف معرفة الطبيعة الإنسانية وتأسيس المجتمع انطلاقا منها،
حتى تكون الحقوق والتشريعات عادلة ومناسبة لأصل الطبيعة الإنسانية، وغير متعارضة معها.وصحيح
أن هؤلاء الفلاسفة اختلفوا في تصورهم لحالة الطبيعة ولأصل الإنسان، إلا أنهم يشتركون
في مبدأ أساسي هو جعل الطبيعة المفترضة للإنسان أساسا لكل حقوقه في الحالة المدنية
أو في حالة الاجتماع، من هنا فإن للإنسان حسب هذا التصور الطبيعي للحق، حقوق لا يمكن
المساس بها، وهي حقوق مطلقة وكونية.وإذا أخذنا
نموذج توماس هوبز مثلا، فإننا نجده يعرف حق الطبيعة بأنه الحرية التي
تخول لكل إنسان في أن يسلك وفقا لما تمليه عليه طبيعته الخاصة وما يراه نافعا له،
وعلى هذا الأساس يقيم هوبز تمييزا حادا بين "الحق الطبيعي"
و"القانون الطبيعي"، فالحق الطبيعي
يتسم بإعطاء الإنسان الحرية المطلقة لكي يفعل كل ما يراه ضامنا لحفظ حياته وبقائه،
ونظرا لكون الجميع يسعى إلى نفس الغاية، فإن البشر يدخلون في حرب مفتوحة تصبح فيها
القوة هي الحكم بينهم، إذ وحدهم الأقوياء من يستطيعون حفظ بقائهم ووجودهم، إن ما يميز
وضعية حالة الطبيعة في مملكة الإنسان عن مملكة الحيوان هو كون الحيوانات تعيش حالة
من غياب التساوي في القوة، فالذئب مثلا ينسحب ويستسلم بسهولة أمام قوة الناب والمخلب
التي للأس. أما عند الإنسان، فالأمر مختلف تمامًا، فإمكانات القوة عنده أوسع بكثير
من إمكانات الحيوان؛ عضلات ومال وحسب ومنصب وذكاء وجمال وحيلة ودهاء...الخ٬ فهناك مساواة
بين البشر في القدرات مما يهدد باستمرار الصراع، فكل عنف سيولد عنفًا مضادًا بالضرورة،
يقول توماس هوبز في كتابه اللفيتان:" إذا ما
نظرت إلى القوة البدنية لوجدت أن الأضعف جسميًا في مقدوره أن يقتل الأقوى، إما باستخدام
الحيلة أو بالتحالف مع الآخرين مهددين بنفس الخطر الذي يهدده". أما القانون الطبيعي، فهو من وضع العقل، ويقوم على
تحويل الحرية الطبيعية لكل فرد إلى حرية مدنية، بحيث لا يعود من حق الفرد فعل كل
ما يريد ويشتهيه، وإنما يصير ملزما وخاضعا للقاعدة القانونية التي تضمن للجميع
البقاء والعيش بغض النظر عن إمكاناتهم ومؤهلاتهم، وهكذا يبدوا أن الحق
الطبيعي حق لا يتيح إمكانية العيش بالمعية لأنه يتيح للجميع السعي وراء إرضاء
رغباتهم لذلك وجب الاستغناء عليه لحساب الحق الوضعي أو القانون المدني الذي يجعل الفعل الإنساني المطبوع بالأنانية عبارة عن
فعل اجتماعي يصبح بموجبه كل واحد عنصرا ضمن مجتمع يسمى "الدولة"،إن حالة
الطبيعة، والتي هي تجربة ذهنية، والتي يعتبرها هوبز هي الوضع الأصلي المفروض في الاجتماع
البشري٬ تجسد حالة غير مريحة تهدد المرء في أقدس حق لديه وهو حق البقاء٬ ومادام أن
حق الفرد، لن يتوقف إذا غابت الكوابح، وسينطلق دون حدود٬ فلا خيار إلا العمل على صده
من الخارج، وذلك بأن نرغمه على التعايش مع حقوق أخرى هي أيضًا تتملك اللامحدودية في
الطلبات والرغبات، وهكذا يتضح أن الحق الطبيعي في حالة الطبيعة لايستند إلى أي
وازع أخلاقي، إنه قائم على رغبة الفرد واندفاعاته في الحصول على كل شيء مما يجعل
الإنسان في حرب دائمة وهو ما يجعل السعادة منعدمة وفي هذا الصدد يقول هوبز في
كتابه اللفيثان"إن قانون الطبيعة،lex naturalis
هو مبدأ أو قاعدة عامة يجدها العقل، وبها يمنع
الإنسان من فعل ما هو مدمر لحياته أو ما يقضي على وسائل الحفاظ عليها، ومن إهمال
ما يظن أنه يمكن أن يحفظها. فعلى الرغم من أن الذين يتكلمون عن هذا الموضوع يخلطون
عادة بين jus وlex أي بين الحق والقانون، غير أنه يجب التمييز بينهما، لأن الحق يقوم على حرية الفعل
أو عدمه، بينما القانون يحدد ويلزم بأحد الأمرين" ويضيف في نفس الكتاب"
فطالما أن كل إنسان يتمسك بهذا الحق في أن يفعل أي شيء يود أن يفعله، يكون البشر
جميعا في حالة حرب" وهكذا نجد أن أساس الحق عند هوبز هو القانون الطبيعي
الذي يدفع الجميع إلى البحث عن السلم والإستقرار من أجل حفظ بقائهم وأمنهم.
تعميق التحليل مع باروخ اسبينوزا للحق
الطبيعي
في ذات السياق سيدفع باروخ اسبينوزا بهذا
الموقف إلى مداه حين اعتبر أن الله قد جعل لكل كائن بنية تحدد ماهيته الخاصة ويسلك
في حياته طبقا لقوانينها ولما توفره له من قدرة، فيكون الحق بالنسبة للذات مطابقا
لقوتها وتابعا لها، وهكذا يتصرف الإنسان حسب قوته وقدرته، وهكذا يكون الحق الطبيعي
غير قابل للتجاوز ويظل هو المعيار الوحيد الذي يحدد أفعال البشر ويحكم حياتهم، فكل
ما يراه الإنسان ويرغب فيه ويريده وتكون له القدرة والقوة على الحصول عليه وعلى
فعله فإنه يفعله وهذا هو الحق الطبيعي وهو فعل ما يمكنني القدرة عليه وتمكنني قوتي
من الحصول عليه.وهكذا تكون الدوافع المبررة لضرورة تجاوز الإنسان لحالة الطبيعة
تتلخص في ثلاثة اعتبارات حسب اسبينوزا:
ü أولها اعتبارات وجدانية وأمنية تتمثل في كون الإنسان يتوق للعيش في أمن
وأمان مما يضطره إلى تجاوز حالة الطبيعة وقبول فكرة التعايش والتعاون.
ü ثانيهما اعتبارات عقلية:تتمثل فيما يدركه الإنسان من مصلحة له
ولأقرانه إن هم عاشوا طبقا لمقتضيات العقل وهذا كذلك يفترض تجاوز حالة الطبيعة.
ü وثالثهما المنفعة المؤكدة، بحيث إذا كان الاعتباران الأولان يفرضان
وجودهما على البشر فإن التخلي عن قسط من
حقوق الذات لصالح سلطة ذات سيادة ومتعالية على الأفراد وتمثل الإرادة العامة من
شأنه أن يكون رادعا لكل مغامرة ومانعا لكل تهور وأن يدفع الجميع للعيش بحسب
مقتضيات العقل، فتكون الرغبة في التعايش والإحتكام إلى ضرورات العقل، لكونيتها
واحترام السلطة الموضوعية بمثابة لحظات لتجاوز حالة الطبيعة في اتجاه بناء مجتمع
سياسي مبني على التعاقد.
هكذا نلاحظ أن الحل لتجاوز الحق الطبيعي نظرا
لكونه يبيح للجميع التصرف حسب قدرتهم وقوتهم الطبيعية فيما يستطيعون الحصول عليه
مما يهدد حياة الضعفاء منهم فإنه حسب هوبز يمكن انطلاقا من التخلي لملك مستبد على كل الحقوق الطبيعية مقابل حفظ البقاء
والأمن والسيادة أو على أساس التعاقد القائم على التخلي عن جزء من الحقوق كما ذهب إلى ذلك اسبينوزا لكن الأساسي بالنسبة
لكل من هوبز واسبينوزا هو ضرورة تجاوز حالة الطبيعية باعتبارها حالة عدوان وعنف
وجور وظلك.
جان جاك روسو/التعاقد الاجتماعي المبني على
احترام الإرادة العامة والقوانين هو أساس الحق
ينطلق جان جاك
روسو في تحليله لأساس الحق، من اعتبار حالة الطبيعة مجرد افتراض وليست حالة
واقعية وتاريخية، وبأنها حالة تتميز بالسلم والمساواة بل إنها عند البعض وفي جميع
الأساطير القديمة تمثل الفردوس الذهبي للإنسان، وكلما ابتعد عنها الإنسان ابتعد عن
السعادة، كما أنها تتميز بالسلم والخير والمساواة، لكن العائق الوحيد الذي يكمن
فيها، هو عدم قيامها على نظام موحد ومشترك، لذا كانت الحاجة ماسة إلى المدنية أو
التمدن. وهكذا يرفض التبرير الذي يقدمه توماس هوبز كأساس للتعاقد وهو اللجوء إلى
القوة، قوة الأمير الذي سيتنازلون له على كل حقوقهم(هوبز) أو جزء منها (اسبينوزا)
بل يرى روسو أن القوة لا تؤسس الحق، لأن الربط السببي بينهما غير سليم من الناحية
المنطقية، فليست دائما القوة توجد الحق وتضمنه بالضرورة،كما أن الحق لا يوجد القوة
لذلك وجب تحويل القوة إلى حق والطاعة إلى واجب قانوني (الالتزام وليس الإكراه) وفي
هذا الصدد يقول روسو:"إن أقوى الناس لا يكون
قويا بالشكل الذي يمكنه من أن يكون دائما السيد، ما لم يحول قوته إلى حق
والطاعة إلى واجب" وهكذا يرفض روسو أن يعتبر ممتلك القوة(الأمير/الملك)
بأنه صاحب حق، لأنه في حاجة إلى أن يجعل الآخرين خاضعين له ليس عن طريق الإكراه
والجبر والقوة، بل عن طريق الواجب، لأنهم يحترمون القانون ولا يخافونه، ولأنهم
يحترمون الملك ولا يهابونه لقوته بل لأنه يجسد الإرادة العامة التي اتفقوا عليها
حينما أبرموا العقد للخروج من حالة الطبيعة التي أفسدتها الملكية، وهكذا يكون
انتقال الإنسان إلى حالة التمدن سيكسب الإنسان معه مجموعة من الإمتيازات، لن يعود
الحق معها هو ما تمليه حيوانية الإنسان، بل ماهيته العاقلة، كما لن تعود القوة
أساس للحق، لأن الحق الطبيعي القائم على القوة يخلوا من كل أخلاقية، بل ستصير
الأخلاق قاعدة كل حق، وبالتالي انتقال الإنسان من حق القوة الطبيعي إلى قوة الحق
المدني الأخلاقي ستتحقق كرامة الإنسان بكونه ذاتا عاقلة ومفكرة تتصرف انطلاقا من
كونها غاية وذات كرامة وليست وسيلة.
المناقشة /يورغن هابرماس /أساس الحق وضعي وقائم على
التشاور والنقاش العقلاني الدائم بين الذوات داخل الفضاءات العمومية
في
أٌقوى الأطروحات الليبرالية المعاصرة نجد الفيلسوف يورغن هابرماس Jürgen
Habermas -المولود بتاريخ18/06/1929- في كتابه الشهير "الحق والديمقراطية Droit
et démocratie" منتقدا التصورات الطبيعية التي جعلت من الاختيار العقلاني للأفراد في التنازل على حقوقهم ومنهم
هوبز مثلا لصالح الدولة لأن هذه النظرية تعطي للدولة الحق في التصرف مع إقصاء كلي
للمواطنين في المشاركة حسب هابرماس، كما انتقد التصور التعاقدي عند روسو
وغيره لأنه جعل من الدولة وحالة التمدن
مركز العملية الديمقراطية وشرعنة الحق، فالدولة في التصور التعاقدي عند هوبز أو
روسو تظل دائما دولة إكراه وإلزام رغم تمتع الأفراد فيها بحق المشاركة والتداول
على السلطة، أما هابرماس فإنه يدافع على الديمقراطية التشاوريةla
démocratie délibérative التي يكون فيها الحق محط نقاش بين السلطة الإدارية ممثلة في أجهزة الدولة
والسلطة التواصلية ممثلة في الفضاءات العمومية والمجتمع المدني،وهكذا يكون الحق
ثمرة للاتفاق والنقاش الذي يخضع لسلطة العقل والقدرة على التبرير الحجاجي
للمعايير القانونية داخل الفضاءات
العمومية باعتبارها مصدرا لتشكل الإرادة العامة، لأن الحق في النهاية يتشكل عبر سلسلة من الإجراءات القانونية
الممأسسة التي تسمح بتشكيل الرأي العام و الإرادة عن طريق المناقشة المفتوحة بين
ذوات مستقلة قادرة على استخدام عقلها استخداما عموميا ونقديا في دولة الحق
والقانون التي تكون فيها السلط متمايزة، ويكون فيها المجتمع منفصلا عن الدولة، لأن
تدخل الدولة في المجتمع المدني هو بمثابة تشويه وتأثير حسب هابرماس في السيادة الشعبية النابعة من النقاش بين جميع
الذوات المشكلة للمجتمع وهكذا لا يعود الحق مشتقا من الأخلاق أو من حالة طبيعية
مفترضة بل هو مؤسس على قواعد المناقشة التي تقتضي ألا أخضع للحق إلا إن كان
مشروعا، والمشروعية عند هابرماس ليس ما تفرضه الدولة بل ما تكون قادرة على تبريره للجميع تبريرا منطقيا
وعقلانيا وفي هذا الصدد يقول هابرماس في
كتابه الحق والديمقراطية: "إن الحق يجد أساسه في الحوار العمومي حول معايير
الفعل" وهكذا يكون الحق ثمرة للتواضع بين جميع الفاعلين والذوات
المكونة للمجتمع وتكون وظيفته هي تعزيز الإندماج داخل مجتمع متغير، يعرف صعودا
متناميا للخطابات الهوياتية ولتعددية الثقافية. وهكذا يكون الحق ثمرة للنقاش
والصراع الإجتماعي الذي يتخذ عند هابرماس طابعا تشاوريا تؤطره أخلاقيات النقاش،
وما هو حق لا يمكن أن يتصف بالثبات لأنه لا يقوم على أي أساس ميتافزيقي بل قابل
للتغير مادام يعكس إرادة الذوات المكونة للدولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق