آخر الأخبار

الأحد، 2 أبريل 2017

المحور الأول والثالث :الواجب والإكراه والمجتمع:موقف إيمانويل كانط/إميل دوركايم /آرثر شوبنهاور/نيقولاي هارتمان

*ذ.الزاهيد مصطفى
يحيل الواجب فلسفيا على رابط يكون الشخص بموجبه ملزما تجاه شخص آخر بأن يفعل أولا يفعل شيئا ما، وهنا يكون الواجب ذو مضمون قانوني،أما الواجب أخلاقيا فهو لا ينجم
عن اتفاق بل عن الطبيعة الإنسانية بوصفه كائن قادر على الإختيار و التمييز بين الخير والشر، والواجب هو ما يجب فعله ولا يمكن التنصل منه نهائيا أي ما يلزم به شخص ذاته بناءا على حريته كذات عاقلة وحرة، لكن الأفراد حينما يتصرفون ويسلكون بناء على إلتزامهم الأخلاقي بواجبات يكون مصدرها هو العقل يصطدمون مع الخصوصيات الثقافية والإثنية للمجتمعات التي يعيشون فيها، مما يجعل الواجب العقلي يصدم بالواجب الذي يفرضه المجتمع، ومادام المجتمع هو عبارة عن مجموعة من الأفراد تجمع بينهم مصالح متبادلة كما قال بذلك "لالاند" فإن المجتمع لا تقوم له قائمة إلا من خلال الرابطة الإجتماعية التي ينشئها بين أفراده والتي تتشكل من مجموعة من المعايير والقواعد والعادات الموجهة للسلوك، وهكذا يبدوا الواجب الأخلاقي من جهة استجابة للإرادة الحرة للذات ومن جهة باعتباره ذاتا عاقلة قادرة على الإلتزام ذاتيا بما يصدر وتشرع إليه ملكة العقل الأخلاقي العملي وقد يكون أحيانا الواجب مجرد استجابة شرطية لإلزامات(إكراهات) المجتمع وإكراهاته.
يتحدد الواجب le devoirفي مجال الأخلاق الحداثية، بما يتوجب على الشخص القيام به، إما بشكل إلزامي إكراهي، نظرا لقهرية العديد من الواجبات بحيث تبدو ضرورة تحتم الخضوع لها، وإما بشكل التزام حر وواع، نظرا لانسجام العديد من الواجبات مع متطلبات العقل الإنساني.
أما الإكراه فهو اسم لفعل أكرهه يكرهه إكراها، أي ألزمه على القيام بفعل، فالإكراه هو إذن إلزامObligation  وهو الطرف النقيض لمفهوم الإلتزام، والإلتزامEngagment هو اسم لفعل إلتزم يلتزم بالأمر التزاما، أي أوجبه على نفسه بطواعية ورضا وقناعة فكرية، دون إكراه من أحد أو ضغط، فالإلتزام إذن يحمل جانبا من حرية الشخص في اختيار أفعاله وتحمل مسؤولية اختياراته بينما الإلزام يحيل على الإكراه وغياب الحرية.
ومن هذه المفارقات التي تنبثق من صميم التحديد الدلالي لمختلف المفاهيم المكونة أو المرتبطة بمفهومي الواجب والإكراه والمجتمع يمكننا صياغة الإشكالية الفلسفية للمحور في التساؤلات التالية:إذا كان الواجب هو ما يتوجب على الإنسان القيام بفعله فهل يصدر عن الإرادة الحرة والعاقلة للإنسان أم أنه مجرد خضوع للإكراهات الخارجية المتمثلة في القانون وفي سلطة المجتمع؟ بعبارة أخرى هل الواجب هو مجرد استجابة للإكراهات والضوابط الاجتماعية والقانونية والعرفية أم أنه نداء العقل والضمير الأخلاقي النابع من الإرادة الحرة والمستقلة؟ هل الواجب إلزام يقوم على القهر والإكراه أم التزام حر ومستقل للذات؟
مستوى التحليل إيمانويل كانط / الواجب إلزام ذاتي حر نابع من الإرادة الحرة والمستقلة والعاقلة للشخص، فهو إكراه ذاتي خالص خاضع لسلطة العقل الأخلاقي العملي والإرادة الطيبة
يرى كانط من خلال وجهة نظر نقدية، أن الواجب الأخلاقي لا يمكن أن يصدر عن القوانين المبنية على الإكراه. إذ يعتبر الواجب نابعا بالضرورة من الإرادة المستقلة للذات باعتبارها ذاتا عاقلة و حرة لا تخضع إلا لتشريعات العقل الأخلاقي النابعة من الذات نفسها لا لإكراهات القوانين الخارجية المؤسسة على المصلحة و المنفعة.وفي هذا الصدد دافع كانط على أن تأسيس "ميتافيزيقا الأخلاق" مسألة " ضرورية لا غنى عنها، لا عن دافع من دوافع التأمل المجرد فحسب يستهدف البحث في مصدر القواعد الأخلاقية الموجودة في عقلنا وجودا قبليا. بل لأن الأخلاق نفسها لا تفتأ تتعرض لألوان من الفساد لا حصر لها ما بقيت مفتقرة إلى ذلك المقياس و المعيار الأعلى الذي لابد منه للحكم عليها حكما صحيحا" من خلال هذا القول يتبين القصد من تأسيس كانط ل"ميتافيزيقا الأخلاق" ألا وهو تلافي أي تعدد في التأويلات التي من المفترض أن تأخذ عليها الأخلاق في بعدها العملي والممارساتي. فالعودة إلى الأخلاق في صيغتها التجريبية و العملية غالبا ما تتخذ أوجها عديدة لا يمكن حصرها، ذلك أنها تستند بالضرورة هنا إلى سياقات مختلفة تجعل الحكم الأخلاقي يختلف من سياق إلى آخر. و إذا كان الترفع عن هذا البعد (التجربة) و كذلك السياق في التجريب سيحيلنا إلى القيم و المبادئ الكلية للأخلاق، التي لا تتعدد فيها، فهو ما يجب حسب كانط أن يؤسس لكل فعل أخلاقي و بالتالي تكون الأخلاق حسب كانط مبادئ تحكم فعل الإرادة لدى الإنسان، بشكل قبلي و شمولي و كوني، دون اختلاف بين البشر، مادامت هذه الأخلاق أوامر للواجب الأخلاقي العملي الصادر عن العقل، أي أنها صادرة عن الذات نفسها، و ليس من خارجها أي من سلطة الدولة أو المجتمع. لقد رفض كانط أن يكون الواجب الأخلاقي صادرا عن سلطة اجتماعية أو سياسية، أو حتى تيولوجية (لاهوتية)، لأنه عند ذلك ستتخذ الأخلاق صفة القهرية والوصاية الخارجية، و سيكون في ذلك نقض لصفة الحرية لدى الإنسان، و من ثم تكون الأخلاق تؤدي دورا معكوسا ليس هو الدور الذي يجب أن تخدمه. هنا يرى كانط أن الآمر العقلي الذاتي الداخلي عندما يكون منطلق الفعل الأخلاقي يكون أمرا صادرا عن الحرية ذاتها أي أنه واجب حر و هنا يتخذ الإنسان صفة الكمال كغاية و ليس كوسيلة، باعتباره الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يمزج في الآن صفة الحرية و الواجب لكونه الكائن الذي يتميز بالإرادة و العقل. فشعورنا بالواجب يقول كانط هو شعور بضرورة عقلية، لأن قانون العقلي يتخذ صفة الآمر في سلوكاتنا وأفعالنا ويجعل الإرادة الإنسانية عقلية، فكل ما يصدر عن العقل وتنفذه الإرادة واجب، وأمر مطلق وغير مشروط، يلزمنا بإطاعة الواجب على أنه واجب، دون أي اعتبار أو اهتمام بفعالية اللذة، أو الرغبة أو المنفعة أو السعادة، وهكذا فإن الواجب في نظر كانط أمر قطعي صادر عن العقل العملي بدون شروط، ولا يهدف إلى تحقيق رغبة أو ميل حسي أو منفعة، وفي هذا الصدد يقول في كتابه "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" :"الأوامر القطعية أو المطلقة، هي الأوامر التي تنظر إلى الأفعال لا من حيث النتائج المنتظرة منها، بل تأخذ الأفعال من حيث هي في ذاتها، إنها أوامر غير مشروطة بأية نتائج أو ميول، بل لها بداهة مباشرة، لدرجة أن الإرادة تعرف أن عليها أن تخضع لهذه الأوامر، وهذه الأوامر ذات صبغة كونية شمولية" وعلى هذا الأساس يشتق الواجب باعتباره قاعدة كلية وكونية غايتها ليست تحقيق اللذة أو المتعة أو المنفعة أو الخضوع للتجربة بل التأسيس لقاعدة سلوك أخلاقية تعامل الإنسانية في شخص الفرد باعتبارها غاية وليست وسيلة وفي هذا السياق يقول كانط"إعمل دائما على أن يكون وحي إرادتك قانونا عاما" ويقول في نفس السياق" تصرف بطريقة تجعلك تعامل الإنسانية في شخصك مما في الأشخاص الآخرين، كغاية في ذاتها وليس أبدا كمجرد وسيلة" ويمكننا تعزيز هذا الكلام بمثاليين من الواقع فمثلا لايمكنني المتاجرة في البشر  أو استعبادهم لأنهم غاية في ذاتهم وليسوا وسائل، لأنه حينما أستعملهم كوسائل قابلة للبيع والشراء لا أكون حينئذ قد حططت من قيمتهم بل حططت من قدري ومن كرامتي لأن سلوكي وفعلي سيحتدى باعتباره قاعدة عامة وبالتالي فالواجب يمنعني من ذلك لأنني ملتزم أخلاقيا تجاه الإنسانية بأن أعامل كل الناس عن واجب باعتبارهم أشخاص لديهم كرامة، كما لا يمكنني الكذب لأن الواجب يمنعني من ذلك مادام الكذب لديه أضرار على الإنسانية جمعاء.و منطلق الواجب الأخلاقي عند كانط هو الإرادة الخيرة، فقد يعتبر البعض الشجاعة والإقدام ورباطة الجأش خيرا،لكن ماذا لو اجتمعت كل هذه الفضائل في مجرم ما؟ لاقيمة إذن للفضيلة بدون إرادة خيرة؟، والذي يضفي عليها طابع الخير،هو ذاك الإكراه الذي ستسم به فعلها، حين يأتي مطابقا للقانون الأخلاقي الذي يشرعه العقل ليتجسد على شكل أوامر قطعية. ويفرق كانط بين الأخلاقية morality والقانونية أو الشرعية legality فيقول إن القانونية تعني أن يتصرف المرء وفقا لما يقتضي به القانون  أو التشريع، ولكن من الممكن أن يجيء تصرف الفاعل مطابقا للقانون أو الشرع، دون أن يكون للفاعل نفسه أي فضل خلقي أو أية جدارة خلقية، ويضرب كانط مثلا لذلك بالسرقة فيقول إن القانون يأمرنا بالمحافظة على ملكية الآخرين، ومادام المرء لايسرق أولا يعتدي على أملاك الغير، فهو يعمل وفقا لما يقتضي به القانون. ولكن الذي يمتنع عن السرقة قد صدر في امتناعه عن هذا عن بواعث" متباينة: كالخوف من العقاب،أو خشية الله، أو احترام الرأي العام، أو الخوف من تأنيب الضمير أو التعاطف مع الأشخاص المعتدى على أملاكهم....الخ. وفي كل هذه الحالات لا يعد الإمتناع عن السرقة فعلا خلقيا بمعنى الكلمة وأما ذلك الذي يقول إن واجبي يقضي علي بألا أسرق فأنا لن أسرق احتراما للواجب ولمقتضيات العقل العملي الأخلاقي فهذا الذي يتصرف على هذا الأساس هو من يعتبر فاعلا أخلاقيا ويسمى الفعل الذي صدر عنه بالفعل الأخلاقي عن واجب.
نستفيد من هذا أن كانط في تأسيسه لمبحث الأخلاق الديونطولوجية (ميتافيزيقا الأخلاق ) أراد أن يسد الطريق بشكل نهائي على الإتجاهات النفعية والوظيفية التي كانت في عصره تعطي للأخلاق  وللواجب الأخلاقي بعدا نسبيا و براغماتيا من خلال تركيز هذه الإتجاهات على البعد التجريبي للأخلاق و تغاضيهم عن الأخلاق كمبادئ قبلية تؤطر ملكة الحرية لدى الإنسان، و مما كان يثير خطورة هذا التصور حسب كانط، هو كونه يؤدي إلى إفساد هذه الأخلاق نفسها عوض أن تقوم على توجيه الإنسان إلى ما هو خير في ذاته لا إلى إعلاء المصلحة والرغبات عن الأخلاق ذاتها، فمؤدى هذا التصور في الأخير لن يكون إلا التعارض والتصادم بين الإرادات لدى بني البشر، و من تم العودة إلى حالة الحرب الكلية، لا إلى ما كان يطمح إليه كانط في فلسفته، أي الهدف من مشروع السلم الدائم و نشر قيم الأنوار. لكن إذا كان كانط قد أسس الواجب على الإلزام والخضوع لسلطة العقل المتعال على الرغبات والميولات و الأهواء والغرائز وهو العقل الأخلاقي العملي  الصوري خوفا من أن تفرغ الميولات واللذة والأهواء الواجب من دلالته الأخلاقية الخالصة فألا يمكن أن نجد في تاريخ الفلسفة من أسس الواجب على قواعد الأخرى تتناقض ومقتضيات العقل العملي عند كانط؟ ألا يمكن للمنفعة واللذة والأهواء والرغبات أن تكون قاعدة لكل فعل أخلاقي في تصورات فلسفية أخرى؟
مناقشة التصور الكانطي / تصور إميل دوركايم الواجب ليس فقط مجرد إلزام بل هو موضوع رغبة وميول من طرف الأفراد تنبني أساس على نتائج الفعل
                إن الإنسان هو فرد في جماعة، يتأثر بها ويؤثر فيها، يأخذ عنها قيمها وتصوراتها الأخلاقية.لذلك قد نقول، مع التصورات السوسيولوجية، إن الضمير الأخلاقي الفردي ما هو إلا صدى للضمير الجمعي، وأن المجتمع هو المصدر الوحيد المحدد للواجبات التي على الأفراد القيام بها، حتى لتغدوا تلك الواجبات مجرد عادات تجثم على إرادة الأفراد وتوجه أفعالهم. إن كل خروج عن هذه الواجبات، يواجه بعقوبات شديدة من طرف المجتمع، الذي عليه حماية قيم الجماعة.لذلك يراهن هذا التصور على أهمية الأسرة والمدرسة وغيرهما من مؤسسات المجتمع، لترسيخ الواجبات ضمانا لاستقرار أمن الجماعة وسعادة الأفراد. ولا يمكن للمرء أن ينفي ما للمجتمع من سلطة في تحديد الواجبات وترسيخها،عبر مجموعة من المؤسسات، فإذا كان الواجب مع كانط أمر قطعي، ففي هذا السياق يتفق إميل دوركايم مع كانط بأن الواجب إلزام/أي إكراه، لكن دوركايم يعالج الواجب الأخلاقي من منظور سوسيولوجي  يربط فيه الواجب بما هو مرغوب  في القيام به، فحسب دوركايم لا يوجد فعل يمكن للإنسان أن يقوم به فقط لكونه واجبا دون الاهتمام بنتائج الفعل وعن ما يحفزه للقيام به، كل واجب أخلاقي هو إلزام عند دركايم لكنه في الوقت نفسه هو استجابة لما هو مرغوب فيه، ففي كتابه "السوسيولوجيا والفلسفة" وكتابه "التربية الأخلاقية" أكد دوركايم على أن البيئة الاجتماعية، هي الشرط الضروري للحياة الإجتماعية في جميع أشكالها، فالفرد المعزول عن وسطه الاجتماعي لابد أن يلحقه الفناء، وفي هذا الصدد يقول دوركايم:"ليس الإنسان كائنا أخلاقيا إلا لأنه يعيش في صلب مجتمعات قائمة، وليس ثمة  أخلاق بدون انضباط و لا نفوذ، والنفوذ العقلي الوحيد هو السلطة التي يتقلدها المجتمع في علاقته بأعضائه، إن الأخلاق لاتبدوا لنا أخلاقا، وبالتالي لا يمكننا الإحساس بالواجب، إلا إذا وجدت حولنا أو فوقنا سلطة تقوم بالجزاء، وهذه السلطة هي المجتمع". فالواجب الأخلاقي في نظر دوركايم هو إذن واجب جمعي، لأنه يفرض نفسه بشكل عام على جميع أفراد المجتمع، وهو إكراهي أو إلزامي لأنه يتضمن صفة الأوامر الآتية من المجتمع، أما سلطته فهي متعالية على الضمائر الفردية، وهي سلطة الضمير الجمعي، ولكن رغم هذا الطابع الإلزامي للواجب الأخلاقي عند دوركايم، والذي مصدره المجتمع، فإن دوركايم لاينفي دور الرغبة في تأسيس الفعل الأخلاقي، فكل واجب أخلاقي هو إلزام ولكنه في الوقت نفسه استجابة لما هو مرغوب فيه، وفي هذا الصدد يقول دوركايم"إننا لا نستطيع أن نقوم بعمل ما فقط لأنه مطلوب منا القيام به، أو لأننا مأمورون به، من المستحيل نفسيا أن نسعى نحو تحقيق هدف نكون فاترين تجاهه ولا يبدو لنا خيرا وجيدا، ولايحرك حساسيتنا، هكذا يتعين أن تكون الغاية الأخلاقية التي نسعى إليها مرغوبا فيها بجانب كونها إلزاما أخلاقيا، فالصفة الأولى للفعل الأخلاقي هي الإلزام لكن صفته الثانية هي كونه محط رغبة"، بهذا المعنى يكون دوركايم قد تجاوز كانط بنظريته الصارمة للواجب الأخلاقي  المتعالي عن الميولات ورغبات الأفراد، ونبه إلى الخلل في نظرة كانط لهذا الواجب الأخلاقي، يقول دوركايم في هذا الصدد:"إن الواجب، أي الأمر الأخلاقي الكانطي القطعي، ليس إذن إلا مظهرا مجردا من مظاهر الواقع الأخلاقي، وهذا الواقع الأخلاقي يبين لنا أن هناك تآنيا مستمرا بين مظهرين لايمكن فصل أحدهما عن الآخر، إذن لم يكن هناك أبدا فعل أخلاقي تم القيام به بشكل خالص على أنه واجب، بل يكون من الضروري دوما أن يظهر هذا الفعل على أنه جيد ومستحسن بشكل ما".
آرثر شوبنهاور/الواجب الأخلاقي استجابة لتعاليم لاهوتية وليس إلى الأخلاق الفلسفية والعقل العملي كما دهب إلى ذلك كانط
بالعودة إلى تاريخ الفلسفة نجد التصور الفلسفي الذي أسسه شوبنهاور وهو من كبار القارئين للفلسفة الكانطية يوجه نقدا لاذعا لكانط  حول مفهوم الواجب الأخلاقي ولقوانين العقل العملي التي يصدر عنها وقد طرح شوبنهاور سؤالا على فلسفة كانط الأخلاقية حيث اعترض عليها قائلا:من يخبرنا ويؤكد لنا أن هناك بالفعل قوانين لابد لنا من أن نخضع لها كل أفعالنا؟بل من يؤكد لنا أن ما لم يحدث في يوم من الأيام  لابد  من أن  يحدث، أو هو بالضرورة ما ينبغي حتما أن يكون؟أليس من واجب عالم الأخلاق أن يفسر معطيات التجربة، بحيث يتناول ماهو كائن أو ما قد كان، محاولا العمل على فهمه حق الفهم، بدلا من الاقتصار على التشريح ووضع الأوامر  وصياغة القواعد؟ بل إن كانط حسب شوبنهاور يفترض وجود مجموعة من القوانين والقواعد الأخلاقية الخالصة دون أن يبرر لنا ذلك بما يكفي حسب شوبنهاور، واستخدام كانط "لمفهوم القانون" جعل شوبنهاور يؤكد على أن فحص هذا المفهوم نجده ذو طابع مدني ينشأ نتيجة الاتفاق والتراضي والتنازل بين مختلف الأفراد المكونين لتنظيم بشري معين؟ وحتى إذا عدنا إلى الأصول التاريخية لظهور مفهوم "القانون" و"الواجب" و"الإلزام" بغية الوصول إلى معرفة المصادر الدينية التي انحدرت منها، يؤكد شوبنهاور سنجدها ذات أصول "تيولوجية /لاهوتية" في تشريع موسى الوارد في سفر "التثنية"، ومعناه أنه ليس هناك واجب بالمعنى الفلسفي والأخلاقي، بل هناك وصايا نزلت لأول مرة في تاريخ العهد القديم على موسى،وتبعا لذلك فإن مفهوم الواجب الأخلاقي يرتد في نهاية المطاف إلى الأخلاق اللاهوتية، مما يدل على أنه مفهوم غريب على الأخلاق الفلسفية، وحتى لو سلمنا مع كانط بأن الواجب مفهوم أخلاقي صرف، لأن القول بوجوب الخضوع للقانون"احتراما للقانون" هو قول غير معقول، لأن العقل يلزمنا دائما بالبحث عن الحيثيات التي تبرر الخضوع للقانون الذي أمرنا بفعل ما.وما أسقط كانط حسب شوبنهاور في صورية الأوامر الأخلاقية التي يجب أن تتأسس على التجربة حسبه هو إيمانه المطلق بكون العقل هو الماهية الجوهرية الباطنية للإنسان، في حين أن الطبيعة الإنسانية التي حددها كانط في العقل ليست سوى مجرد شيء ثانوي  يرتبط بالظواهر ولا يستطيع أن يرقى بنا إلى إدراك الأشياء في ذاتها، بينما نواة وماهية الكائن البشري هي الإرادة لا العقل  والإرادة هي تعبير عن اندفاع  من الميول والرغبة وبالتالي فما يحدد الواجبات الأخلاقية هو ميولات  الناس ورغباتهم و ما يريدونه.
نيقولاي هارتمان/الواجب الأخلاقي الكانطي قام على مغالطات منطقية ومصدر الفعل الأخلاقي هو الوجدان  والميول
انتقد نيقولاي هارتمان تصور إيمانويل كانط للواجب الأخلاقي لأنه جعل مصدره ذاتيا صرفا، بحجة أنه لا مفر لنا من الاختيار بين أمرين، إما أن نعتبر الواجب الأخلاقي صادر عن الطبيعة/الغريزة أو الأشياء/المنفعة أو العالم الخارجي/المجتمع والقانون والأعراف، إما القول بأن مصدره هو العقل الأخلاقي العملي أو الذات/الإرادة أو العالم الباطني/ الإرادة الخيرة. ويرفض كانط حسب هارتمان القول بالمصدر الأول للفعل الأخلاقي لأن ذلك سيجعله تجريبا محضا، وسيصبح مبدأه نسبي مفتقر إلى الكلية والضرورة والعمومية، وإذا قلنا بالمصادر الثانية للفعل الأخلاقي، أي، لو أرجعنا مصدر الواجب الأخلاقي إلى العقل فإننا سنكون حينئذ أمام مبدأ عام وكلي وضروري يتعالى عن كل تجربة ومن هنا يطرح نيقولاي هارتمان  السؤال التالي: ألا يمكن أن يكون للقانون الأخلاقي مصدر آخر غير الطبيعة أو العقل؟وهكذا يخلص هارتمان إلى أن أساس الواجب الأخلاقي هو الإعتبارات الوجدانية التي تتصارع في داخل الذات وتحدد خياراتها  أما الصورة التي تطبع الواجب الكانطي فهي صورية مجردة  كما وصف هارتمان الواجب الأخلاقي الكانطي بأنه يقوم على مغالطات منطقية حينما خص  كانط العقل  الأخلاقي العملي  بالصورية والعقل النظري بكونه ماديا تجريبيا، وهكذا فأفعال الإنسان ليست أفعال عرفانية صوفية  وهو ما يطغى على الواجب الأخلاقي بل هي أفعال وجدانية.
التركيب
ما نخلص إليه هو أنه لا وجود للواجب في غياب الإكراه، فالواجب في الأصل هو إلزام وأمر يجب القيام به، وهذا الإلزام لاينطلق من فراغ بل لابد من قواعد تؤسسه، والقاعدة التي اقترحها كانط هي العقل العملي المتعالي عن سلطة الأهواء والرغبات والميول، لأن هذه العناصر إذا ارتبط الواجب بها من شأنها حسب كنط أن تفرغه من كل دلالة أخلاقية وتسقط الذات في أنانية قاتلة، لكن هل يمكن القول أن الواجبات الأخلاقية تأتى لغاية في ذاتها دون استحضار الغاية من الفعل، فالإنسان مادام ينمو وينشأ داخل مجتمع لديه سلطة عليه يمارسها من خلال معاييره الإجتماعية، فالمجتمع هو من يحتضننا حينما نأت إلى هذا العالم وهو من يتكفل في البداية بنا حينما يقذف بنا إليه بتحديد الخير والشر، الممنوع والمرغوب، وبالتالي فإننا لانقوم إلا بما تعلمنا إياه من طرف المجتمع وما كرسه فينا، لكن هذا لايعني أننا لانملك حرية في اختيار أفعالنا فأحيانا نعيد النظر فيها لكن متأخرين وفي سن متقدمة حينما نكتسب وعيا بالأسس الأخلاقية لأفعالنا فنعيد النظر فيها ويكون ذلك إيذانا منا بمواجهة المجتمع، فحقوق الإنسان مثلا الكونية أحيانا تجد لها أو يجد المعتقدين بها رفضا أو تضاربا يجعلهم متناقضين مع ما يسمح به المجتمع ويريده، لذلك فإن الواجب الأخلاقي لديه قيمته الفلسفة والعملية لأنه يخلص الإنسان من أخلاق الوصاية والرقابة والمنفعة والميول، لكن أن تكون كل أفعالنا هي استجابة لنداء داخلي قد يؤدي إلى نوع من المثالية اللاهوتية التي تسعى لجعلنا ملائكة وليس بشرا لديهم رغبات وغرائز واندفاعات وميولات وهو ما جعل نتشه يرى أن الفعل الأخلاقي يجب أن يتأسس على إرادة القوة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق