آخر الأخبار

الثلاثاء، 28 فبراير 2017

معايير الحقيقة



*ذ الزاهيد مصطفى
يحيل مفهوم المعيار على الأداة التي من خلالها نقيم الشيء ونقيس وزنه وكميته وحجمه وفي مجال الفلسفة فالمعيار هو المقياس الذي من خلاله نحكم على شيء ما، وعلى هذا الأساس فإن الإشكال هنا هو المقياس الذي من خلاله نتمكن من معرفة ما هو حقيقة، لكن إذا كانت الحقيقة تتعارض مع الرأي وليست في متناول
جميع الناس كما ذهب إلى ذلك أفلاطون في أسطورة الكهف الذي جعلها حكرا على العالم والفيلسوف، فكيف نستطيع بلوغ الحقيقة وتأسيسها؟ وما هو المعيار الذي نستطيع من خلاله الحكم على أن معرفة ما هي معرفة حقيقة؟هل معيار المطابقة مع الواقع أم معيار المطابقة مع العقل أم معيار المطابقة لذاتها؟
مستوى التحليل
لقد اختلف الفلاسفة في تحديد معيار الحقيقة ومصدرها، وذلك راجع إلى اختلاف مجالاتها وموضوعاتها، فديكارت مثلا يعتبر أن معيار الحقيقة هو"الحدس Intuition" و"الاستنباط Déduction " ويقصد بالحدس الإدراك العقلي البسيط والمباشر للأشياء باعتباره تصورا بسيطا ومتميزا لا يبقى معه أي أدنى شك فيما ندركه من حقائق، وهذا التصور البسيط صادر عن ذهن خالص ويقض، أي عن نور العقل وحده، لكن الحدس حسب ديكارت وحده غير كاف للوصول إلى الحقيقة إلا إذا كان مصحوبا بعملية الاستنباط الذي يقصد به مصدر غير مباشر لإدراك الحقائق، لكنه ليس أقل أهمية من الحدس، لأنه يقود بدوره إلى حقائق أولى أو بديهيات، أي كل ما يمكن استنباطه من أشياء أخرى معلومة من قبل بنوع من اليقين، فالحدس نعتمد عليه في معرفة القضايا البسيطة أما الاستنباط فيفيدنا حسب ديكارت في التعرف على القضايا المركبة والاستدلالية، أما معيار صدق هذه القضايا فيكمن في وضوح وبداهة القضايا البسيطة وفي انسجام وتماسك القضايا المركبة. لكن بحكم العالم تتعدد فيه القضايا التي يصطدم بها الإنسان والعقل  فإنه وجب استخدام منهج صارم من أجل بلوغ حقيقة هذه القضايا، فعندما يتعلق الأمر بمعارف وقضايا سهلة يكفي أن يخضعها العقل للفحص بواسطة آلياته ليتعرف على أنها حقيقة أم خاطئة، أما حينما يتعلق الأمر بالمعارف المركبة فلابد من تفكيكها أولا إلى أجزائها البسيطة، ثم تجميعها ثم بنائها في نسق واحد ثم العمل على مراجعتها تفاديا للنسيان أو الخطأ دون إغفال أحد عناصرها لذلك نجد ديكارت مهتم بتأسيس القواعد المنهجية لقيادة العقل نحو اكتشاف الحقيقة، ويعني ديكارت بالمنهج :"قواعد، وثيقة سهلة تمنع مراعاتها الدقيقة من أجل أن يؤخذ الباطل على أنه حق، وتبلغ بالنفس إلى المعرفة الصحيحة بكل الأشياء التي تستطيع إدراكها" وهذه القواعد هي:
1.              قاعدة البداهة: وتتطلب ألا أقبل إلا ما هو بديهي. وما هو بديهي هو الحدس العقلي لفكرة واضحة ومتميزة. وهي تكون واضحة عندما أدرك جميع عناصرها، ومتميزة عندما لا أخلطها مع أي فكرة أخرى غيرها، وينتج عن هذه القاعدة أن المعرفة البديهية لا تقبل الشك. وفي هذا السياق يقول ديكارت" يستطيع كل إنسان أن يرى بالبداهة أنه موجود وأنه يفكر، وأن المثلث محدود بثلاث خطوط، وأنه ليس للكرة إلا سطحا واحدا، وغير ذلك من الحقائق المتشابهة التي هي أكثر عددا مما يعتقد في العادة" "وتختص البداهة بادراك الأشياء البسيطة، والبسيط عند ديكارت ما ليس له أجزاء فإما أن يعرف كله أو يجهل كله، وعلى ذلك تكون البداهة هي العمل الذي به نعرف المبادئ الأولى" ويعرفها في مقام آخر بقاعدة اليقين ويقول فيها" ألا أقبل شيئا على أنه حق، ما لم أعرف يقينا أنه كذلك: بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع شك".
1.   قاعدة التحليل: وتقوم على تقسيم  الصعوبات وإرجاع مشكلة معقدة إلى عناصرها البسيطة المركبة لها. وفي هذه القاعدة يقول ديكارت"ينحصر المنهج بأجمعه في أن نرتب وننظم الأشياء التي ينبغي توجيه العقل إليها لاستكشاف بعض الحقائق. ونحن نتبع هذا المنهج خطوة خطوة، إذا حوّلنا بالتدريج القضايا الغامضة المبهمة إلى قضايا أبسط، وإذا بدأنا من الإدراك البديهي لأبسط الأشياء ex ominum simplicissima rum intuitu فإننا نجتهد أن نرقى بنفس الدرجات إلى معرفة سائر الأشياء".
2.   قاعدة التركيب:  وهي أن أقود أفكاري ابتداء من الأسهل والأبسط مرتفعا بها إلى الأفكار الأكثر تعقيدا وصعوبة وفي هذا الصدد يقول ديكارت" أن أسير أفكاري بنظام، بادئا بأبسط الأمور وأسهلها معرفة كي أتدرج قليلا حتى أصل إلى معرفة أكثرها تركيبا، بل وأن أفرض ترتيبا بين الأمور  التي لا يسبق بعضها الآخر بالطبع" وفي هذا الصدد يشبه ديكارت من لا يتبع هذه القاعدة في العلم وفي الحياة "بالرجل الذي يريد أن يرقى منزلا من أسفله إلى أعلاه فيحاول أن يثب وثبة واحدة، ضاربا الصفح عن السلّم المجعول لهذه الغاية، أو غير مبصر إياه".
3.   قاعدة المراجعة: وتقوم على إحصاء جميع ما قمت به، فأراجعه حتى أوقن أني لم أترك شيئا إلا وأخضعته للتمحيص. وتسمى أيضا بقاعدة (الاستقراء التام أو الإحصاء أو التحقيق)، وهو يعرضها في هذه العبارة الموجزة:"أن أعمل في كل الأحوال من الإحصاءات الكاملة والمراجعات الشاملة ما يجعلني على ثقة من أني لم أغفل شيئا".
إن إتباع هذه القواعد ، قاد ديكارت إلى المزيد من الحرص على اليقين، وإلى الوعي بضرورة الشك ولو مرة في حياته في مجموع معارفه، وقد كانت تأملاته التي وضعها في كتاب "التأملات الميتافيزيقية" تمثل محاولة جذرية لمراجعة جميع المعارف، لقد كان الشك المنهجي الجدري، هو وسيلة ديكارت للوصول إلى البداهة الأولى التي تقوم عليها جميع البداهات الأخرى:بداهة الكوجيطو، إن تجربة الكوجيطو"أنا أفكر إذن أنا موجود" التي تفيد أن حقيقة هذه العبارة لا يمكن الشك فيها. فالتفكير، أي الشك والتخيل وغيرهما من الأنشطة الذهنية، تؤكد أن من يفكر يوجد وجودا لاشك فيه. وهذا اليقين لا يترتب عن استدلال بل عن حدس عقلي لا يتوقف على الجسم وحواسه ولا عن المعارف السابقة لدى الذات. وهكذا فالحقيقة معيارها هو الوضوح والبداهة.
الإنتقال إلى المناقشة
    إذا كان ديكارت أن معيار الحقيقة هو البداهة والوضوح التي تستلزم وجود قواعد ومنهج صارم فإننا نجد دافيد هيوم يرى بأن هناك اختلاف في معايير وصدق أو كذب المعرفتين العقلية والتجريبية، حيث يقوم صدق المعرفة العقلية على توافق الفكر مع موضوعه، في حين يتوقف صدق المعرفة التجريبية على تطابقها مع الواقع الخارجي، ويمكن إرجاع هذا التمايز إلى أن المعارف العقلية تقوم على الإنسجام الذي يكونه العقل بين شكل المعرفة والتصور القبلي لديه عنها، على العكس من ذلك تستدعي المعارف التجريبية ضرورة البحث عن ما يطابقها في الواقع من أجل التأكد من صدقها وخطئها، وهكذا حسب هيوم لا يمكن أن نتحدث عن معيار واحد للحقيقة، فتعامل العقل مع معارف متعددة ومختلفة يفرض عليه أن يبحث عن معايير مختلفة تؤكد صدقها، وهو ما أكد عليه هيوم حين أقر أن المعارف العقلية يكون معيارها تطابقها مع التصورات الذهنية الموجودة لدينا عنها، أما المعارف التجريبية فمعيار صدقها متوقف على  تطابقها مع العالم الحسي وإذا لم تتطابق معه اعتبرت خاطئة.
التركيب
ما نخلص إليه من خلال تحليلنا لمعايير الحقيقة، هو أن الإنتقال من براديغم فلسفي قائم على المطابقة إلى براديغم فلسفي قائم على الإختلاف والنسبية، جعل معيار الحقيقة ليس واحدا ومطلقا، بل تتعدد المعايير بتعدد الحقائق، فمثلا في التجربة الصوفية لا يمكن أن يكون معيار الحقيقة التي يعتقد بها الصوفي أو العارف أو المتشوق هو التطابق التجريبي لأن ما يعتقد به يخصه هو ومن يشاركونه ذات الإعتقاد، وسواء رأينا فيه نحن وهما أو مجرد استيهامات فإنه يظل بالنسبة لصاحبه حقيقي أما الإتجاه التجريبي والوضعي المنطقي فإن معيار التحقق التجريبي والمطابقة مع الواقع هو الدليل والمعيار الذي يقيسون به صدق وحقيقة أي معرفة، وانطلاقا من الإشكالات التي نوجد أماها ونحن نتحدث عن تعدد معايير الحقيقة، يبقى الإشكال المطروح هو لماذا جميع الناس يطالبون ويسعون وراء الحقيقة، هل لأنها مفيدة ونافعة أم لأنها تحمل قيمة أخلاقية ما؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق