*ذ الزاهيد مصطفى
نعثر في قلب كل المشاريع الفلسفية سواء التي
تنتمي إلى الفلسفات التقليدية أو التي تنتمي إلى المعاصرة حضورا واضحا للحقيقة
وللبحث عنها، وكأن لهذه الحقيقة قيمة ما تحملها،فالمواطن يطالب السياسي بالحقيقة،
ورجل السياسة يؤكد للمواطن أنه يقول الحقيقة بخلاف غيره، فلاشيء نتداوله أو نتحدث
فيه أو نؤسسه سواء كان علما أو فلسفة وإلا و كان ادعائنا هو البحث عن الحقيقة،
نظرا لكونها تمثل ما يريده الناس، ويتخذونها مثلا أعلى ونموذجا يسعى لتحصيله كل
فكر سواء كان نظريا أو عمليا، فهل الحقيقة غاية في ذاتها أم مجرد وسيلة لتحقيق
المنفعة والمصلحة؟ وهل تتحدد قيمة الحقيقة بما هو أخلاقي أم بما هو عملي ونفعي؟.
مستوى التحليل
بصدد الإجابة عن ذات الإشكال المطروح يمكننا العودة إلى التصور البرغماتي الذي تأسس مع وليام جيمس والذي نظر للحقيقة من
حيث منفعتها، وهكذا نرى وليام جيمس أن الحقيقة ليست غاية في ذاتها بل هي مجرد
وسيلة يتم تسخيرها لأجل تحقيق غايات ومصالح مادية، فالحقيقي حسب جيمس هو الواقعي
والمفيد، فالشيء يكون حقيقيا، إذا وفقط إذا كان مطابقا للواقع ومفيدا، مما يعني أن
الانسجام الداخلي ليس ضروريا وكافيا لكي يكون الشيء حقيقي بل إلى جانب ذلك ينبغي
أن يكون محققا لمنفعة مادية، لأن الحقيقة حسب جيمس مرتبطة بالمردودية والإنتاجية
وهذا دليل على التصور الوظيفي للحقيقة مع وليام جيمس وفي هذا الصدد يقول"إن
الأفكار التي ينبغي أن نعتبرها صحيحة لهي تلك التي تقول لنا أي نوع من الوقائع
نافع لنا وأيضا ضار بالنسبة إلينا... هنا يظهر أن امتلاك الحقيقة عوض أن يكون غاية
في ذاته، يصبح وسيلة مقدمة يتوصل بها إلى إشباع حاجات حيوية".
الإنتقال إلى المناقشة
إذا كان وليام جيمس يرى أن الحقيقة تطلب من
طرف الناس نظرا لكونها مفيدة ونافعة فإن
سورين كيركغار يرى أن الحقيقة غاية في ذاتها، ويعطي مثال بالفيلسوف سقراط
الذي كان مدافعا عن الحقيقة بوصفها غاية في ذاتها، ومات شهيدا للحقيقة، نتيجة
الصراع الذي خاضه ضد السفسطائية باعتبارها حركة تتلاعب بالألفاظ وتعلم مقابل أجر،
كما كانت قادرة على إثبات القضية وإثبات نقيضها مادامت تتقن الجدل، فحمل سقراط
لواء الحقيقة من أجل الحقيقة، التي تكمن قيمتها في جانبها الأخلاقي، لذلك كنا نجده
منشغلا بتعريف المفاهيم لأن الحقيقة حسب سقراط هي في العمق فضيلة ينشدها الإنسان
لذاتها وليس للذة أو المنفعة التي تحققها ومن أجل بلوغها على المرء أن يتخلص من
الجهل وأن يتسلح بالمعرفة.
انفتاح في المناقشة على التصور المابعد حداثي
للحقيقة مع نتشه
ضدا على كل التصورات
الأخلاقية أو النفعية للحقيقة يربط فريديريك
نتشه الحقيقة بالقوة والسلطة وقد عالج نتشه مشكلة الحقيقة في كتابه أفول
الأصنام حيث أعلن عن موت الإله في القرن
التاسع عشر، والذي جاء في سياق نقد القيم والأفكار المثالية سواء كانت ذات طابع فلسفي أو لاهوتي. ولذلك فالإعلان
عن موت الإله يدل عليه كتاب لنيتشه يعلن فيه عن “أفول الأصنام”،
والمقصود بالأصنام والآلهة هنا هو انتقاد
الأفكار و القيم الأخلاقية التي تدعي أنها صحيحة ومطلقة
وخالدة، حيث أعلن نيتشه أنها مجرد أوهام اعتقد الناس لزمن طويل أنها حقائق.ولذلك فنيتشه يمارس هنا منهجه الجينيالوجي ليعود إلى أصل الأفكار ويبين منشأها
التاريخي، والدوافع التي وقفت وراء إنتاجها وتشبث الناس بها. وفي هذا السياق وضح نيتشه
كيف أن الناس لا يبتغون الحقيقة من أجل ذاتها بل يطمعون في النتائج المفيدة
والعواقب الحميدة التي تنتج عنها. أفول الأصنام عند نتشه هو أفول للحقيقة
الواحدة وميلاد للتأويل وكشف عن الرغبة الدفينة في السيطرة وفي هذا الصدد يقول
نتشه."إن أفول الأوثان بالتعبير الفصيح هو الحقيقة البالية وهي تقترب من
نهايتها''.
التركيب
إن الحقيقة هي غاية كل خطاب فلسفي لكن طلب الحقيقة والسعي ورائها لا
يتحدد دائما بالقيمة الأخلاقية للحقيقة بل قد يحدد ويرتبط بالقوة والسلطة التي
تدعمها تلك الحقيقة كما رأينا مع نتشه، ولو كانت الحقيقة غاية أخلاقية أو ذات قيمة
في ذاتها لما قتل فيتاغورس تلميذه الذي اكتشف الأعداد الصماء/الجذرية، لقد كان
تاريخ البشرية تاريخ الصراع حول الحقائق، والحقيقة التي تنتصر ليس لكونها علمية
وفقط، بل لكونها مفيدة أحيانا، لقد اكتشف أرسطارخوس اليوناني كروية الأرض وأثبتت
الفيلسوفة هيباتيا ذلك في مدرسة الإسكندرية، ورغم ذلك تم قتلها وسحلها حية لأن
الحقيقة الجديدة كانت تتناقض مع ما جاء في تعاليم أرسطو وما جاء به الإنجيل وما
يخدم مصالح الكنيسة، لكن التحولات السياسية والثقافية والعلمية لعصر النهضة جعلت
العالم مفتوحا أمام العقل والحقيقة كذلك،
لكن رغم التحول الذي عرفه مفهوم الحقيقة لازال طلبها مرتبطا بالسلطة وبإرادة القوة
وبالخطاب وبمنتجي ذات الخطابات(سياسية كانت أو فلسفية أو دينية....)، ويكفي أن
نتأمل عالمنا المعاصر لكي نكتشف أن من يملك الحقيقة يملك السلطة، والحقيقة ليست
غاية دائما أو شيء معطى بل يمكن صناعتها وخلقها عبر وسائل الميديا التي قد تجعل
بعض الأوهام أحيانا تقبل وكأنها حقائق، وفي هذا الصدد يقول نتشه إن الحقيقة وهم
نسينا من كثرة استعماله وتداوله أنه كذلك.
خلاصات عامة و انفتاح على مجزوءة السياسة
إن الوجود البشري لا يمكن حصره في دائرة
الأخلاق أو العلاقة بالآخرين بل هو وجود يتشكل في صميمه من رغبة الإنسان في تحصيل
المعرفة، لكن المعرفة عند الإنسان لا يمكن تحصيلها إلا في ظل شروط مواتية تسمح
بحرية التفكير والتعبير عن الرأي وقول الحقيقة مهما كانت مناقضة لما تعارف عليه
الناس وما تسمح به معتقداتهم، هذا الشرط الأساسي نجده في العمق مرتبطا بتحقيق
الأمن والحفاظ على الذات ضد كل النزوعات الفردانية، وهي الشروط لم تتوفر تاريخيا
إلا داخل أرقى أشكال التنظيم الاجتماعي وهي الدولة، باعتبارها التعبير العقلي على
قدرة الأفراد على التنازل عن جزء من حرياتهم لفائدة تنظيم يسهر على تدبير شؤونهم،
هذا التنظيم الذي يقوم على مبدأ الكياسة والسياسة يكشف لنا عن أحد الأبعاد
الجوهرية الأساسية في الكائن الإنساني، وهو البعد السياسي(أرسطو الإنسان حيوان سياسي)، والمتأمل للتاريخ
يجد أن مراحل تطور الفكر الفلسفي أو العلمي هي المراحل التي عرفت تطورا في تصورنا
للسياسة باعتبارها تدبير للعيش بالمعية بين جميع المختلفين، وليس باعتبارها أداة
للهيمنة من طرف جماعة دينية أو سياسية أو أقلية ما !! فما
السياسة؟وإن كانت تعني التدبير والقيادة فهل الإنسان باعتباره ذاتا عاقلة في حاجة
إليها رغم امتلاكه لملكة العقل التي اعتقد الفلاسفة أنها قادرة على إخراجه من
الوصاية والقصور؟ وما الدولة؟ إن كانت الدولة الفضاء الذي تمارس فيه السياسية :فما
هي أسس الدولة و ما هي مقوماتها؟ وما
الغاية من وجودها كتنظيم اجتماعي؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق