*ذ الزاهيد
مصطفى
تقديم عام
إن الغاية التي ينشدها كل فكر يسعى لتأسيس
معرفة كيفما كانت طبيعتها، سواء في مجال العلوم الحقة أو العلوم الإنسانية، فهو
البحث عن الحقيقة، لكن الذات التي تكون معرفة عن عالمها وتعتبر تلك المعرفة التي
كونتها معرفة حقيقية سرعان ما تجد نفسها ضحية للأداة التي كونت من خلالها تلك
المعرفة، فمثلا الإنسان يكوّن معارفه ويشكلها
من خلال "اللغة" أو
"المنهج"، والإنسجام مع الواقع هو ما قام
عليه تاريخ الفلسفة في تصوره للحقيقة، فإن الإختلاف والتقويض لهذه الأسس
الميتافيزيقية هو ما شكل موضوع الفلسفة المعاصرة لأن التطابق مع الواقع لا يحيل
على الصدق دائما فقد تخترق هذا الواقع الذي نعتبر التطابق معه معيارا للحقيقة
والصدق العديد من الأوهام والمعارف اللاعقلانية وبالتالي فمعيار التطابق أو
الاتفاق ليس بالضرورة معيارا للحقيقة فالجميع آمن لسنوات أن الأرض ثابتة نظرا
لأنهم طابقوا حكمهم ومعرفتهم مع حواسهم لكن العلم أثبت عكس ذلك وبأنها تدور لذلك وجب إخضاع الحقيقة إلى التأمل الفلسفي من
أجل تكوين تصور حول هذا المفهوم استرشادا بالإشكالات التالية: ما معنى الحقيقة؟
وما هي العلاقة بينها وبين الرأي
وبالمعرفة العامية؟هل هي علاقة اتصال
واستمرار أم علاقة انفصال وقطيعة؟ وما معيار صدق الحقيقة ؟ وأين تكمن
قيمتها؟.
فهي أدواته لبلوغ الحقيقة ووسيلته للوصول إليها، لكن جميع الناس ليسوا متساوين في
امتلاك هذه الأدوات "اللغة" و "المنهج"، وهو ما يجعل المعارف
التي يكونونها من خلال هذه الأدوات وعن طريق مختلف المناهج العلمية تظل مختلفة من
إنسان لأخر وهو اختلاف لا يعود إلى طبيعة المواضيع التي يكونون معرفتهم حولها بل
إلى طبيعة الأدوات التي يدركون بها هذه المواضيع، فإذا كان التطابق ومبدأ
الهوية
من الدلالة العامية إلى الدلالة الفلسفية
ü الدلالة العامية لمفهوم الحقيقة:
من منا لا يهتم لأمر الحقيقة، هذه الكلمة
التي يطالب بها الجميع، في الإعلام والسياسة والشارع، بل حتى في علاقتنا اليومية
نجد أنفسنا نطالب بعضنا البعض، "أتقول الحقيقة" ؟ أخبرني بالحقيقة؟ لا تكذب علي، وقل الحقيقة؟ وهنا في الدلالة العامية تتمظهر استعمالات الحقيقة باعتبارها
نقيضا للكذب والصدق، فالحقيقي هو الشيء الواقعي والصادق، والذي له وجود مادي قابل
للإدراك الحسي بالعين المجردة أو بالحواس. أما في لسان العرب لابن منظور فنجد التعريف اللغوي للحقيقة يحيل على ما اتفق الناس على التخاطب
به، وهي كل لفظ يبقى على ارتباط مع موضوعه.
ü
الدلالة الفلسفية للحقيقة la
Vérité:
أما في الدلالة الفلسفية فنجد في معجم
لالاند أن مفهوم الحقيقة، يحيل على صفة للحكم المتطابق مع الواقع، وتأخذ اسم
الصدق حين يكون الحكم هو الذي يحيل على الواقع واسم الحق حين يكون الواقع هو الذي
يطابق الحكم، والحقيقي أو الصادق عند لالاند هو ما تمت البرهنة عليه، والحقيقة
بمعنى أعم هي خاصية الحكم الجازم الذي يستوجب الموافقة التامة عليه، والشيء الأصيل
في مقابل المزيف.لكن الحقيقة في الاستعمال الفلسفي والعلمي المعاصر لم تعد تعني
ما يطابق الواقع بل صار هذا التعريف غامضا وبدأ التركيز في تعريف الحقيقة على ما له
علاقة بين الحكم(الفكر) واللغة(القضايا )فحيث لا توجد لغة لا توجد حقائق.
ü دلالة مفهوم الرأيL’opinion :
في المقابل يدل لفظ الرأي على انطباع شخصي
يكونه الفرد بناء على إدراكه الحسي المباشر مع العالم، ومن تم فهو يعكس
التجربة العامية والمشتركة بين الناس. وقد أشار أبو الوليد ابن رشد إلى
لفظ "الرأي" وعرفه بكونه شكل من
أشكال القياس عند الجمهور (عامة الناس)، أما في المعجم الفلسفي عند لالاند
فالرأي حالة ذهنية تتمثل في الاعتقاد بصحة قول ما، لكن مع القبول بإمكانية الخطأ
أثناء حكمنا هذا.
المحور الأول: الحقيقة والرأي
الإشكالية الفلسفية للمحور
يعتقد جميع الناس أن ما يعرفونه ويرونه هو
حقيقي بالنسبة إليهم وإلى الجماعة التي ينتمون إليها، لكن العلم في كل مرة يقلب
أوهامنا ويكشف لنا أن أغلب ما اعتقدنا بكونه حقيقي ليس سوى رأي ومعرفة تلقائية
وظنية متغيرة، و انطلاقا من مختلف الدلالات التي تحيل عليها مختلف المفاهيم يمكننا
صياغة الإشكال الفلسفي :ما طبيعة العلاقة بين الرأي والحقيقة؟هل هي علاقة اتصال
أم انفصال؟بعبارة أخرى هل يمكن أن نعتمد على الآراء المشتركة والشائعة في تأسيس
الحقيقة أم يجب تجاوزها ونسفها؟وهل الحقيقة معطاة بشكل قبلي في الواقع أم هي نتيجة
بناء وحوار بين العقل والواقع وبين الفكر ومواضيعه؟
تضعنا إشكالية الحقيقة والرأي في تاريخ
الفلسفة أمام تصورين فلسفيين مختلفين، فالموقف الأول تمثله الحركة السفسطائية التي أعطت القيمة للرأي والحواس والمعارف
المشتركة في تأسيس الحقيقة، فالعقل ليس المصدر الوحيد للحقيقة، بل يشارك في هذه
الحقيقة وفي تأسيسها العواطف والوجدان والقلب والتجارب الحسية، وبالتالي نجد
السفسطائيون لا ينظرون للحقيقة كشيء متعالي على الواقع والمجتمع والإنسان، بل
جعلوا الحقيقة متغيرة ونسبية وهو ما يعكسه قول كبير السفسطائيين بروتاغوراس"الإنسان
مقياس جميع الأشياء، مقياس ما يوجد منها وما لا يوجد" ويقصد بروتاغوراس
بهذا الكلام أن الإنسان مهتم بشكل أساسي بالأشياء التي يتمثلها ويحسها، ومادام
الإحساس متغير من شخص إلى آخر كانت الأحكام والحقائق متغيرة من شخص إلى آخر على
أساس القوة والمنفعة، وبالتالي فالرأي والحس أساس الحقيقة.
مستوى
التحليل
بخلاف هذا التصور الذي يؤكد على أهمية الرأي
في تأسيس الحقيقة نجد الموقف الأفلاطوني الذي
احتقر الرأي وجعله نقيضا للحقيقة ومنفصلا عنها، إن الرأي حسب أفلاطون هو مجرد
معرفة ظنية ومتغيرة ويرادف الوهم، بينما الحقيقة هي المثال الذي لا يستطيع العوام
من الناس بلوغه بل الفيلسوف هو القادر على ذلك، ويبدوا ذلك واضحا من خلال تمييزه
بين عالم المثل وعالم الحس في أسطورة الكهف، ففي العالم الحسي لا توجد حقائق بل كل
ما يراه السجناء /الأفراد المقيدين بالعادات والتقاليد والتمثلات المشتركة هو مجرد
وهم وظنون وظلال للحقائق الثابتة والخالدة هذه الحقائق المتغيرة والظنون سماها
أفلاطون DOXA أما المعرفة الخالدة والثابتة واليقينية فسماها بال EIDOSلذلك فالرأي هو نقيض للحقيقة ولا يمكّننا من
تأسيس العلم الرياضي القائم على اليقين والمطلق.لذلك يجب التخلي المطلق عن العادات
والتقاليد والآراء الشائعة .
الانتقال
إلى المناقشة
لقد أدى تطور تاريخ الفلسفة والعلم إلى تطور
تصورنا للحقيقة، فمع الفيلسوف الفرنسي رونيه
ديكارت لم تعد الحقيقة ضد الرأي أو نقيضا له فقط، بل هي عبارة عن قطيعة
إبستمولوجية la rupture épistémologique مع الرأي، لذلك نجده
في كتابه "تأملات ميتافزيقية في الفلسفة الأولى" يؤكد على ضرورة
الاحتراز من المعارف والآراء الخاطئة، بل لابد من التسلح بالشك المنهجي الذي يكون
مؤقتا وموجها ضد كل المعارف التي لم تثبت يقينيتها وصحتها، لذلك يحذرنا ديكارت من
الإستكانة إلى الحوا س والآراء والتخيلات لأنها عائق أمام الذات في بلوغ الحقيقة،
وهو ما ساهم في تأسيس الحقيقة العلمية التي تأسست باعتبارها تعارض مطلق مع الرأي
في الفلسفة والعلم الحديث، فالرأي بمثابة أحكام مسبقة Préjugé وقبلية وجب القطع معها
لكي لا نسقط في الذاتية كما يرى غاستون
باشلار، فبادئ الرأي أو المعرفة العامية كما يسميها تشكل عائقا أمام
المعرفة العلمية، فبادئ الرأي يفكر تفكيرا سيئا حسب باشلار لأنه لا ينظر للأمور
إلا من جانبها النفعي الخالص، لذلك تكون معارفه في أغلبها قائمة على تراكم من
الأخطاء ومن الأوهام والنقائص لذلك وجب التخلص من الرأي، فالحقيقة العلمية هي بناء
منهجي يتم في حوار مستمر وجدلي بين الفكر والواقع أما الرأي فهو مجرد معرفة معطاة
بشكل تلقائي وفي نقده لهذا النمط من المعرفة القائم على الرأي يقول غاستون
باشلار في كتابه "تكون الفكر العلمي":"وبالنسبة
للفكر العلمي تعتبر كل معرفة جوابا عن سؤال. وإن لم يكن ثمة سؤال، فمن غير الممكن
قيام أية معرفة علمية.لاشيء يحدث تلقائيا، لاشيء يعطى، كل شيء يبنى"،
وهكذا أصبحت الحقيقة في الفكر العلمي مختلف تمام الإختلاف عن الحقيقة الصوفية أو
الدينية أو التلقائية بل هي حقيقة تبنى من خلال القطيعة مع الخطأ والرأي والوهم.
الانتقال إلى التركيب
ما نخلص إليه هو إن إشكالية الحقيقة حاضرة في
صلب جل المشاريع الفلسفية، فهي الغاية التي ينشدها كل فيلسوف من خلال بنائه
لتصوره، لكن الحقيقة إن كانت عند البعض ليست إلا استمرار للرأي وللانطباعات الحسية
وتمثلات الذات على أساس اللذة أو المنفعة أو القوة كما هو الأمر عند السفسطائيين،
فإن تصورات فلسفية أخرى رأت في الحقيقة نقيضا للرأي باعتباره مجرد معرفة ظنية،
وبالتالي اعتبروا الحقيقة هي ما يكون مطابقا للعقل والواقع وهكذا تم النظر للحقيقة
على أساس المطابقة identification في تاريخ الفلسفة، لكن مع العلم الحديث والمعاصر والفلسفة
المعاصرة تغير تصورنا للحقيقة فصارت
الحقيقة نتيجة بناء يتأسس على حوار جدلي بين العقل وموضوعه، مستبعدا كل معرفة
عامية، فالعقل العلمي لم يعد استمرارا للمعرفة العامية و للآراء المشتركة، بل أصبح
قائما على القطيعة معها وهكذا صار مفهوم القطيعة الإبستمولوجية la
rupture épistémologique إجراءا علميا ومنهجيا
لتأسيس الحقيقة العلمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق